All Posts By جهاد فاضل

تاريخ وأشخاص وتراث

ابن رشد وسنته العالمية.. رد الاعتبار ليقظة العقل العربي
في الغرب لم تبق جامعة من الجامعات خارج إطار احياء ذكرى ابن رشد، الذي توفي في العاشر من ديسمبر عام 1198 قد وصلت فلسفة أرسطو إلى الغربيين مشروحة أفضل شرح على يديه حتى لُقب في أدبياتهم بالشارح الأعظم، دون أن ينفوا عنه صفة الأصالة والابتكار في هذه الشروح. والمعروف أنه نشأ في أوربا ـ وبعد نقل مؤلفات ابن رشد إلى اللاتينية ـ تيار عُرف “بالرشدية اللاتينية” كان له نفوذ كبير على العقل الغربي استمر حتى بداية العصر الحديث.

أما الأكاديميون الإسرائيليون فلا يقل اهتمامهم بابن رشد عن اهتمام زملائهم في الغرب. فقد انشأوا في جامعة تل أبيب مركزا للدراسات الرشدية وعملوا على ترجمة أعمال ابن رشد إلى لغتهم. وهم يتعاملون معه على أنه يمت بصلة وثيقة إليهم وإلى حضارتهم. فهو أستاذ أعظم فلاسفتهم ابن ميمون صاحب كتاب “دلالة الحائرين”، الذي نهج فيه نفس نهج ابن رشد في التوفيق بين الحكمة والشريعة. ولاشك أن من أسباب اهتمامهم بابن رشد تلك الشائعات التي سرت في المجتمع الأندلسي عقب نكبته حول أصول أسرته. فقد زعم خصومه عقب نفي الخليفة الموحدي له إلى “أليسانة” بأنه من أصول يهودية “لأنه لا يعرف له نسب بين أسر الأندلس العربية”. وأليسانة هذه قرية تقع بجوار قرطبة كان كل سكانها يهوداً. فكأن الخليفة أراد بنفي ابن رشد إلى هذه القرية تأليب العامة عليه عن طريق تذكيرهم بأصوله واعتبار أن اشتغاله بالفلسفة ليس سوى دليل على ضعف إسلامه، مع أن والد هذا الخليفة، وهو أبو يعقوب يوسف بن عبدالمؤمن، هو الذي طلب من ابن رشد شرح مؤلفات أرسطو.

هل كان يهوديا؟

على أن تلك الشائعات عن يهودية أسرة ابن رشد لم تثبت يوما. فاذا لم تكن أسرته من أصول عربية، وهذا ما يرجحه بعض الباحثين، فقد تكون من أصول قوطية أو إسبانية.

ولا يعيب ابن رشد، وهو سليل أسرة تبوأ أفرادها أعلى المناصب في الأندلس، أن يكون من أصول يهودية أو غير يهودية مادام الله شرّفه بالإسلام.

على أن هذا الاهتمام العالمي الواسع بابن رشد لا يقابله اهتمام عربي أو إسلامي مماثل. فرغم الكثير مما كُتب عن ابن رشد في الإطار العربي والإسلامي، فإن هذا الذي كُتب ليس كافيا، كما أنه ليس دقيقا أحيانا كثيرة. فكثيراً ما زودت آراؤه وفُهمت فهماً ملتوياً. ومن قبيل ذلك ما ذكر بعض الباحثين من أنه يقول بحدوث العالم، مع انه يقول صراحةٍ بقدمه.

ويبدو أن اهتمام الأكاديميين الغربيين بابن رشد مرده إلى أنه يؤلف بنظرهم جسرا بين الحضارات كما يؤلف نهاية للعالم القديم وبداية للعالم الحديث الذي نعيش فيه اليوم. فقد مثلت شروحه لأرسطو جهدا واعيا لإعادة تأسيس العقلانية الأرسطية، كما أفردت فلسفته تيارا أسهم في عملية الإصلاح الديني وفي حركة التنوير بوجه عام. ومن الجدير بالذكر أن نفوذ ابن رشد لم يقتصر على الغرب الأوربي وحده، بل اتسع ليشمل الجامعات والاكاديميات الاوربية الشرقية في القرون الوسطى. وهذا ما جرى اكتشافه أخيرا بعد ان كانت الفكرة السائدة أن “الرشدية اللاتينية” لم تتجاوز أوربا الغربية.

على أن كل هذا النفوذ الواسع لابن رشد في الغرب لم يقابله نفوذ مماثل له في البيئة العربية الإسلامية. فقد نظرت إليه أوساط إسلامية متفرقة، سواء في زمانه بالأندلس، أو في زماننا اليوم، بريبة وتوجس. وليست محنته على يد الخليفة الموحدي سوى وجه من وجوه هذه الريبة. كما أن بعض الباحثين العرب المعاصرين يتعاملون معه كما لو أنه ظاهرة من ظواهر الانشقاق في الحضارة العربية. في حين أن ذروة هذه الحضارة القائمة على النظر العقلي والتوفيق بين العقل والنقل، أو بين الفلسفة والدين. ولا ننسى أن الغربيين ماداموا اتهموا الحضارة العربية بالعجز عن التفلسف والنظر العقلي. ولكن ها هو فيلسوف عربي يقف على قمة الفلسفة في العصر الوسيط يبلور عقلانية فريدة في عمقها وثرائها، يمتد تأثيرها إلى الغرب، ولكن يعجز الشرق مع الأسف عن الاستفادة منها.

هوية إسلامية خالصة

لابن رشد هوية إسلامية خاصة إلى جانب الهويات الكثيرة التي نالها خلال فتوحه لبلدان الغرب. فقيه اسلامي من قرطبة قرأ أرسطو قراءة خاصة على غرار ما يقرأ علماء ومفكرون عرب معاصرون فلاسفة الغرب وعلماءه ومفكريه لينتفعوا بعلمهم، وعلى غرار ما فعله علماء أوربا ومفكروها مع ابن رشد بالذات، انطلاقا من وجود “سوق” إنسانية حضارية واحدة، ومن كون التأثر والتأثير مبدأ مقرراً دراسياً منذ القدم.

وقد سلك ابن رشد بالذات في تعامله مع أرسطو مسلكاً يدل على أصالته. فصحيح أن ثقته بالمعلم الأول كانت ثقة كبيرة، إلا أنه لم ينبهر به على النحو الذي أفقده ثقته بنفسه. فكثيرا ما ذكر في شروحه: “أرسطو يقول كذا، أما نحن فنقول كذا”.. ثم إنه في كتاب شهير له عنوانه “فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال” يوفق بين أحكام الشريعة والفلسفة، بل يستمسك بالأصول الإسلامية ويتشبث بها بعد أن سرت عدوى التناقض بين الفلسفة والدين من المسيحيين إلى المسلمين في زمانه. فموقف ابن رشد، كما يقول بعض الباحثين، كان موقفا تصحيحيا واجه به هذا الأثر الطارئ على مجريات الفكر العقلي في الإسلام في الأندلس، وهو موقف يكشف عن الوجه الحقيقي للفلسفة الإسلامية في هذا الصدد.

على ان ابن رشد لم يكن الفيلسوف أو المفكر الوحيد الذي شغلته قضية التوفيق بين الشريعة والحكمة. فهذه القضية تؤلف أحد الثوابت في تاريخ العقل العربي. فها هم المعتزلة يفتحون هذا الباب منذ وقت مبكر. ثم يلحق بهم الأشاعرة ليوفقوا بين أهل النقل، والمعتزلة أهل العقل، وإذا اتينا إلى تيار الفلاسفة بالذات وجدنا الكندي، وهو رأس الفلاسفة الإسلاميين في المشرق، يقف الموقف نفسه. ثم يتبعه الفارابي وابن سينا بعد ذلك.

ويبدو أن عقلانية ابن رشد كانت من الأسباب العديدة التي أدت إلى نكبته. كان المجتمع الإسلامي في الأندلس يواجه خطراً على مصيره، فالممالك النصرانية تتحفز للانقضاض على الدول التي أقامها المسلمون في إسبانيا.

وما حضور المرابطين ثم الموحدين من بعدهم إلى الأندلس إلا استجابة لنداء أهلها. وقد وجدت فئات كثيرة من أهل الأندلس في نزعة التفلسف والتنظير سواء لدى ابن رشد أو لدى سواه، ما يعيق نزعة أخرى يفترض أن تسود هي نزعة تحصين الذات ضد هذه الأخطار والتمسك بالعقيدة، وإلى مثل هذا الصراع بين أصحاب النزعتين يقول المقري “إن كل العلوم لها عند أهل الأندلس حظ واعتناء إلا الفلسفة والتنجيم فإن لها حظا عظيما عند خواصهم، ولا يتظاهر بها خوف العامة، فإنه كلما قيل فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم، أطلقت عليه العامة اسم زنديق وقيّدت عليه أنفاسه، فإن زل في شبهة رجموه بالحجارة أو حرقوه قبل أن يصل أمره للسلطان أو يقتله السلطان تقربا لقلوب العامة. وكثيرا ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدت”.

ويتضح مما يقوله المقري أن العامة ضاقت ذرعاً بالفلسفة لأن الفلسفة يمكن أن تهدد العقيدة، أو أنها يمكن أن تؤدي إلى تفتت وفوضى في وقت ينبغي أن يعتصم المسلمون بالدين أمام الخطر الخارجي المحدق بهم والمتمثل بشبح الأسباني الساعي لاسترداد ما يزعم أنه حقه أو أرضه. في حين كان ابن رشد المنصرف إلى حياة عقلية وفكرية راقية يرى أن خط العقلانية الذي ينهجه إنما هو أداة لصالح الفكر الإسلامي والمجتمع الإسلامي وليس هدفاً بحد ذاته وليس على الخصوص، اداة تفتيت أو تمزيق.

نتاج الثراء الثقافي

ولكن ابن رشد منا نحن العرب وليس لاتينيا أو يهودياً أو منشقاً. انه نتاج الثراء الثقافي والفكري الذي كانت تنعم به الأندلس في زمانه، بل إنه نتاج روح التسامح التي سرت في تلك البلاد والتي لم تكن متاحة لو ضاق صدر الإسلام بها أصلاً.

نشأ ابن رشد في بيئة شكلت الثقافة العربية الإسلامية بنيتها العقلية الأساسية وفي بيت ورث الفقه كابراً عن كابر.

وقد ولي ثلاثة أجيال من أسرته وظيفة قاضي القضاة في مدينة قرطبة، إذ تتابع على هذا المنصب الكبير الجد والأب والحفيد وهو أبوالوليد محمد بن أحمد بن رشد الذي تربى على طريقة أسلافه، فحصل العلوم العربية والإسلامية، ثم درس الطب والحكمة. وقد عاصر فيلسوفا أندلسيا كبيرا هو ابن طفيل صاحب قصة “حي بن يقظان” الذي قدمه إلى الخليفة إبي يعقوب يوسف بن عبدالمؤمن الموحدي.

في ذلك اليوم أراد الخليفة أن يمتحن ابن رشد في مسألة من مسائل الفلسفة، فأظهر ابن رشد الحرج حتى طمأنه الأمير، وفتح أمامه باب الحديث فانطلق ابن رشد يُخرج كل ما عنده، فأعجب به الأمير ثم ما لبث أن عهد إليه بمهمة شرح كتب أرسطو، وهي المهمة التي نهض بها ابن رشد على أكمل وجه. إلا أنها جرت عليه المتاعب في الوقت نفسه. ذلك أن الخليفة الذي أتى بعد أبي يعقوب، وهو ابنه أبو يوسف، أمر باعتقاله ونفيه إلى قرية خاصة باليهود، وإحراق كتبه. كما أنه أصدر بيانا عاما نهى فيه عن قراءة كتب الفلسفة أو الاشتغال بها. ولكن محنة ابن رشد لم تدم طويلا. فقد عاد الخليفة بعد سنة وعفى عنه واستدعاه إلى مراكش. وفي ذلك ما يدل على أن محنة ابن رشد لم تكن لسبب ديني، وإن كانت لها نتائج كارثية على الفلسفة في العالم العربي الإسلامي، إذ لم تقم لها قائمة بعده. فقد كان قمة هذه الفلسفة كما كان شهابها الأخير.

بنظر بعض فقهاء الأندلس، كان ابن رشد يرمز إلى المثقف العامل على فتح أبواب الثقافة الإسلامية أمام ما يمكن تسميته بلغة زماننا بالغزو الثقافي الأجنبي. لقد شرّع أبواب الثقافة الإسلامية في قرطبة وأشبيليا وسواهما في حواضر الأندلس للثقافة الهلينية القديمة، المتمثلة على الخصوص بمنطق أرسطو وفلسفته. ولكن الواقع أن ابن رشد لم يكن لا الفيلسوف ولا الفقيه العربي الأول الذي سلك هذا الطريق، فقبله سلك هذا الطريق فلاسفة وفقهاء إسلاميون آخرون كان منهم أبو حامد الغزالي الذي حمل على الفلاسفة في كتابه “تهافت الفلاسفة” ولكن بأسلوب الفلاسفة وبالمنطق الأرسطي نفسه.

سيادة العقل

يرمز ابن رشد في تاريخ الفلسفة إلى معان كثيرة مختلفة منها الإيمان بسيادة العقل، والبحث عن الحقيقة، والنظر إلى الفلسفة على أنها نهج وليس مذهبا مكونا من مجموعة من الحقائق. فقد دعا إلى البحث عن الحقيقة أيا كان مصدرها، كما دعا إلى فتح النوافذ، وإلى تأويل النص عندما يتعارض مع العقل. ودعا أيضا إلى الالتزام بالعلم وقوانينه عندما نقد الغزالي الذي ذهب إلى عدم وجود علاقات ضرورية بين الأسباب ومسبباتها.

ولذلك يقال عادة إن أوربا تقدمت لأنها أخذت بأفكار ابن رشد في حين تخلف العالم العربي لأنه أخذ بآراء الغزالي اللا عقلانية.

والواقع أن ابن رشد لون من ألوان الحضارة العربية الإسلامية التي عرفت المحافظين كما عرفت المنفتحين. غرسة طبيعية في تراث يحض على النظر العقلي والتأمل في الخلق. فلا يتوهمن أحد أنه كان غريبا في هذه الحضارة أو منشقا أو مدسوسا. ولا يحاولن أحد أن يركز على المحنة التي ابتلي بها في أواخر حياته ليستنتج منها ما يشاء حول محنة العقل في بلاد المسلمين.

فهذه المحنة التي ابتلي بها قابلة للشرح والتفسير، وكان من الممكن أن تقع في أي مكان آخر في القرون الوسطى وأن ينال صاحبها أقصى العقاب. ولا ننسى أن تاريخ الفكر في أوربا في العصر الوسيط حافل بنكبات أمر وأدهى للفكر وأهله. فإذا كان الخليفة الموحدي قد اكتفى بنفي ابن رشد وبحرق كتبه، ثم عاد وعفى عنه بعد ذلك، فإن محاكم التفتيش الأوربية كانت تذيق أمثال ابن رشد الموت.

ولا ننسى أن الفلسفة كانت شائعة لسنوات طويلة قبل محنة ابن رشد، وأن الخليفة الموحدي أبا يعقوب يوسف هو الذي شجعه على شرح أرسطو وزوده بما لديه من كتب لأرسطو.

على أن الجوهري في كل ذلك هو ضرورة الحضور العربي في سنة ابن رشد العالمية. إن ابن رشد الذي يتحدث عنه الأوربيون كأساس من أسس التنوير عندهم هو جزء لا يتجزأ من حضارة ظلت تسطع على الغرب وعلى العالم كله أكثر من ألف سنة، هي الحضارة العربية الإسلامية.

لذلك، يتعين على العلماء والمفكرين والأكاديميين العرب أن يكونوا في طليعة الذين يفترض أن يسهموا في سنة ابن رشد، سواء بإحياء ذكراه في كلياتنا وجامعاتنا، أو في كليات الغرب وجامعاته.

إن منظمة الألكسو، أي الإدارة الثقافية التابعة لجامعة الدول العربية وكذلك الجامعات العربية، ووزارات الثقافة، مدعوة للاتصال بالجهات الثقافية الغربية الناشطة في هذا المجال، وذلك للتنسيق معها والمشاركة في احتفالاتها. ومن شأن كل ذلك ليس اعادة الاعتبار لابن رشد في الإطار العربي الإسلامي وحسب، بل تحسين صورتنا في العالم الخارجي. لقد دأب الإعلام المعادي على تصويرنا على أننا أمة عنف وسفك دماء في حين أن هذا العنف هو في بعض صوره ردة فعل لمظالم ألصقها الغرب بنا. ولكن تراثنا فتح صورة للعقل والعقلانية، بل هو تراث يحض على العقل والنظر العقلي وليس الفيلسوف الأندلسي أبو الوليد بن رشد الحفيد سوى ثمرة من ثمرات هذا التراث.

وجها لوجه

عبدالوهاب البياتي وجهاد فاضل
* أدونيس شاعر من الطبقة الثالثة أو الرابعة، وإذا أراد أن يدافع عن الإنسان العربي فعليه أن يضحي براحته.

ليس البياتي في حاجة إلى تعريف، فهذا الشاعر الذي يعيش الآن في المنفى بين الآم الحنين والشوق إلى ثرى الوطن من جهة، والنقمة على قسوة النظام وظلم جلاوزته من جهة أخرى، وفيما هو يتقلب بين الآلام يغرد فيشجو ويترنم فيطرب، استطاع أن يتسلح بزهده، ويستمد من مناصريه الفقراء والمقهورين قوة تجعل منه خصماً للظلم والقسوة والغبن الذي لا مثيل له، ولا شك أن الجولة الأخيرة ستكون لصالحه فينهزم الجبابرة أو يخرون ساجدين أمام إرادة ولا شك أن الجولة الأخيرة ستكون لصالحه فينهزم الجبابرة أو يخرون ساجدين أمام إرادة الشعب الذي هو لسان حالها. ويعد عبدالوهاب البياتي من الشعراء العراقيين الكبار الذين يمثلون جيل الرواد، فقد كان البياتي مع السياب ونازك الملائكة يشكلون مثلث الشعر الذهبي. فاز البياتي بجائزة العويس الإماراتية في 1996 وينسب الكثيرون صعود نجم الشاعر عبد الوهاب البياتي، وبخاصة في بداياته في الخمسينيات، إلى أنه استقل في تلك المرحلة قطاراً عجائبيا كان يصنع أدباء وشعراء، هو قطار الحزب الشيوعي. ففي نظر هؤلاء لا يمكن التأريخ لعبدالوهاب البياتي، سيرة وشعراً، دون المرور بذلك القطار أو التوقف عنده، كما لا يمكن التأريخ لسيرة الكثيرين من أدباء وشعراء تلك المرحلة الغنية بالأدب والشعر دون التعرض لكرامات ذلك القطار الذي ما إن كان يصعد إليه الكاتب أو الشاعر حتى يصل اسمه إلى كل عاصمة عربية، وحتى يجد بانتظاره تظاهرات صاخبة ترحب به. فما الذي يقوله الشاعر عبدالوهاب البياتى عن هذا القطار وعن تجربته فيه وأثره فى شعره وشهرته؟ هل كان لذلك القطار فضل على البياتى الشاعر الذي ذاع صيته فيما بعد وبات واحداً من ثلاثة شعراء كانوا ذات يوم يؤلفون الثلاثى الذهبى للشعر العراقى الحديث، هم بدر شاكرالسياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتى؟ البياتى يقول للـ “العربي” فى هذا الحوار ما قاله المتنبي ذات يوم: هذه حجة لاجئ إليها اللئام! ولكن ماذا يقول أيضا عن “تهمة” أخرى هي أنه لم يكن يوماً شاعراً قوميا عربيا على غرار الشعراء القوميين المعروفين، على غرار بدر شاكر السـياب بعد أن ألقى بنفسه من قطار الحزب الشيوعي غير آسـف ولا نادم وبات يغنى للعرب والعروبة؟ هذا هو محور واحد من قضايا كثيرة ساخنة أثارها الشاعر عبد الوهاب البياتي. وقد قام بالتحاور معه الصحفى والناقد اللبنانى الشهير جهاد فاضل المعروف بجهوده النقدية في مجال الشعر العربى، وقد أجرى للعربى أكثر من حوار.

* ماذا قبل كل شيء عن مشروع البياتي الشعري؟ أين أصبح هذا المشروع؟ هل اكتمل؟ أما حان للفارس أن يترجل وأن يستريح؟

– المشروع الشعري لا يمكن أن تحدد معالمه منذ البداية. عندما يبدأ الشاعر بالكتابة، أو يضع قدمه على أرض الشعر، لا يدري إلى أين سيمضي أو ينتهي.

كان هذا شعوري عندما نشرت “أباريق مهشمة” عام 1954. ولكني أحسست بعد أن نال هذا الديوان شهرة كبيرة في أرجاء الوطن العربي، – وربما لأول مرة في تاريخ الثقافة العربية في هذا القرن – بمسئولية كبيرة كما أنني أحسست بخوف من الواقع العربي الذي كان يتغير باستمرار. منذ البداية أحسست بمصائب ومكائن قد تحل بالثقافة العربية من خلال التصاقها بالسياسة، وأقصد بالسياسة هنا السياسة اليومية، سياسة الاحتراف، السياسة المتغيرة، سواء كانت في الشارع أو في السلطة.

كنت أحاذر من أن ألتقي مع هذا الخط، وإن لم أكن بعيدا عنه. ظللت أحمل بيدي جمرة الشعر، كان هذا هو مشروعي وكانت هذه الجمرة بوصلتي أيضا لتحديد مساري الشعري. ربما كانت هجرتي عن الوطن غير سياسية وحسب، بك إن الجانب السياسي فيها هو القليل، ولكن الجانب الشعري وكيف احتفظ بمقدرتي على كتابة الشعر في جو بعيد عن الليل، عن الإرهاب، عن الواقع الملوث ماديا وروحيا، هو هاجسي. كنت أشعر بأن حياتي ارتبطت بالكتابة، وأنني دون الكتابة أموت تماما. كان هذا تطابقا. وقد انبثق منه تطابق بين سلوكي ورؤيتي للحياة وعلاقاتي بالناس وموقفي الشعري أيضا. كان هذا مهماً للحفاظ على مشروعي الشعري الذي كان يتنامى يوما بعد يوم. كنت أرى هذا البنيان لبنة بعد لبنة، حجرا بعد حجر. وكنت لا ألتفت إلى الوراء لأرى ما أنجزت. ولم أكن مزهواً على الإطلاق، بل على العكس، فكلما وضعت لبنة شعرت بجزع أكبر، لأن ذلك كان يضعني أمام مسئولية تزداد خطورة يوما بعد يوم. كان البعض يعتقد أن شهرتي في البداية انبعثت من مواقف سياسية، وهذا غير صحيح. لقد جذفت ضد التيار منذ الستينيات وبقيت وحدي. ووقفت في وجه قوى سياسية مختلفة كانت تهدد الشاعر فيّ لا الإنسان وحده وقد صمدت تماماً. تلك كانت لحظة حاسمة ومهمة في حياتي. وقد اجتزت تلك المرحلة. انتقلت من “النار والكلمات” الذي نشر في عام 1964 إلى مشروع “سفر الفقر والثورة” الذي اعتبره الدكتور إحسان عباس ذروة جديدة أعلى سناما من الذروة التي حققها ديوان أباريق مهشمة، وقد كتب الدكتور إحسان عباس دراسة مهمة في مجلة الآداب في عدد خاص عن الشعر العربي الحديث في عام 1966 أكد فيها هذه الظاهرة. بعد ذلك شعرت بأنني استعدت وعيي وثقتى وزال جزعي لأنني كما ذكرت كنت أشعر بأن البنيان بدأ يعلو فيعلو. أعطاني ثقة جديدة في الغوص في حياة الناس الفقراء. عندما كتبت “سفر الفقر” و”الثروة” كنت في مصر. كنت أذهب إلى أحياء الفقراء وإلى مسجد سيدنا الحسين واختلط بالناس العاديين في المقاهي وأشتري الكتب الشعبية لقراءتها. أي أنني عدت إلى التراث من جديد، ولكن لا لأقرأ ما قرأت في دار المعلمين العالية، بل لأقرأ ما فاتني من التراث قرأت في تلك الفترة الشعراء المتصوفة. قرأت بعض دواوين الشعر العربي التي لم تكن محققة في زماني. قرأت كتاب الأغاني من جديد، وإن كانت بعض أجزاء الأغاني مقررة علينا في دار المعلمين العالية، ولكننا قرأنا صفحات قليلة منها. عدت فقرأت الكتاب من جديد، واكتشفت فيه آفاقا جديدة منحتنى فيما بعد مادة شعرية مهمة لتعميق رؤيتي الشعرية من خلال التراث، وكيف أن الشاعر وهو يتقدم في أرض الشعر يعود إلى التراث لكي ينطلق منه من جديد وينقطع عنه ويبدأ برحلة جديدة. يتواصل مع التراث ثم ينقطع عنه.

إذن أصبحت في منتصف مشروعي الشعري بين الحداثة كما يسمونها، أو الجديد، والتراث أيضا. كنت أستسقي منه بما يمكن أن نعتبره جديداً.

إنه الحوار بين الأصالة والمعاصرة والتراث قضية تكاملت عندي كما ترى.

قطار الحزب الشيوعي

* هناك من يقول إن قطار الحزب الشيوعي كان وسيلة النقل التي أوصلت الكثير من الشعراء والأدباء العرب إلى الشهرة، ومن هؤلاء بدر شاكر السياب ومحمود درويش .. وآخرون، ومنهم أيضا عبدالوهاب البياتي. كيف تتحدث عن هذا القطار الآن؟ وكيف كانت علاقتك به؟

– لم تكن لي علاقة بالحزب الشيوعي نهائياً، بل كانت لي صلات صداقة مع كل القوى الوطنية العربية ومنها الحزب الشيوعي.

إنها حقيقة، ويكاد يكون جميع المثقفين العرب مروا بهذه المرحلة ولست وحدي من مر. ولكني كما ذكرت في بداية حديثي عن مشروعي الشعري، مررت بهم ولم أكن منهم، كما لم آكن ضدهم. وهذه قضية مهمة جدا والكثير من الشعراء كانوا في قطار الحزب الشيوعي أو سواه، ولكن لم يستطع لا هذا الحزب ولا ذاك أن يصنع منهم شعراء وأدباء. بل إن البعض منهم كان يحتل الساحة الشعرية باسم الشعر والساحة الشعرية بريئة منهم.

كتبت عن هذه الظاهرة في السابق وذكرت أن الكثير من الشعراء غير الموهوبين دخلوا في أحزاب كانت في السلطة أو خارج السلطة، وكانت لها سطوة على الشارع، ولكنها لم تتمكن من أن تصنع منهم شعراء في الحزب الشيوعى في “شيلي” كان هناك “بابلو نيرودا”، وهو أعظم شاعر في العالم سواء كان شيوعيا أو غير شيوعي. ولكن في نفس الحزب كان هناك مئات الشعراء، ولكننا لم نسمع بهم لم يستطع الحزب الشيوعي أن يصنع منهم شعراء.

هذه حجة لاجئ إليها اللئام، كما يقول المتنبي، عندما يكون هناك طود شامخ يتعالى يبدأ بعض الصغار لإيجاد كيف اشتهر هذا، هل هو يفعل كذا أو يفعل كذا؟

وكما ذكرت فقد كانت لي مواقف في عام 1964 لم أعلنها بشكل مباشر، لكن أعلنت أنني مستقل تماما عن كل التيارات السياسية. وقد ظهر هذا في شعري وفي سلوكي تماما. تحررت من هذا الهاجس أو “الدوغما” التي كانت توجه لي. وهؤلاء يرددون نفس التهمة التي توجهها السلطة إلى الشعراء في كل العصور.

أنت تعرف أنه في عصور محاكم التفتيش في أوربا وفي العالم كله، عندما كانوا لا يستطيعون وقف الشاعر الذي يمضي في طريقه، يتهمونه بتهم شتى. لكني كنت أقوى من مثل هذه التهم.

إن ديواني “سفر الفقر والثورة” أعقب إعلان موقفي الواضح الصريح بأني لا أنتمي إلى موقف سياسي، بل أنا رجل تقدمي. وقد نال هذا الديوان شهرة كبيرة في كل أرجاء الوطن العربي.

إذن هذه التهمة باطلة من الأساس، وقد أبطلت أنا مفعولها.

الشاعر والقومية

* ولكن هناك تهمة أخرى توجه للبياتي هي أنه لم يكن شاعرا قومياً عربياً بالمعنى المعروف للكلمة، لقد كان دائما شاعرا تقدميا، وأحيانا شاعراً يسارياً، ولكن لماذا لم يقترب من العروبة كما اقترب السياب في بعض مراحله؟

– هذا شيء جميل ومضحك أيضا. العربي يسمي نفسه عربيا قوميا مثل العندليب أو الضوء يسمي نفسه ضوءاً. هذه صفة كامنة فينا، في سلوكنا. يكفي أني أكتب باللغة العربية، وأني شاعر معروف وهذا يؤكد هويتي القومية.

* ولكن سواك يكتب بالعربية أيضا ولا ينسب إليهم مضمونا وأساساً؟

– أنا أنتسب إلى العرب مضموناً وأساساً، وآية ذلك أن قرائي لا ينتمون إلى حزب سياسي معين، أنا قرائي من كل الأقطار. أنا مثلي مثل طاغور وأسد الله غالب. أسد الله غالب شاعر من الهند، والذين يقرأون شعره ينتمون إلى اتجاهات سياسية مختلفة. المتصوفة يقرأون شعره، والسكارى ومن إليهم.

أنا أكتب من أجل الإنسان، والإنسان هو الإنسان العربي والإنسان الكوني أيضا.. الموقف الإنساني في الشعر لا يتناقض مع الموقف القومي أبدا. والموقف القومي

لا يحتاج إلى تأكيد. لماذا أقول إني عربي”؟ أنا عربي. ربما هذا يكون في ظروف الاحتلال، في ظروف احتلال أجنبي، أو في ظروف أقلية معرضة للذوبان في أكثرية فيتخذ المرء مثل لهذا الموقف، ولكني عربي وأعيش في وطني العربي، وأنتمي إلى تراث عربي وأكتب بلغته.

* هل يقلقك وضع الشعر العربي اليوم؟ كيف ينظر شاعر من جيل الرواد إلى حاضر شعرنا الحديث؟

– أنا شخصيا أنظر إلى هذا الوضع نظرة تفاؤلية بالرغم من أنني أعيش في زمان ومكان يخيم عليهما البؤس والمذلة والفاقة والخراب الروحي والمادي، ولكنني عندما أنظر إلى المستقبل أرى أن الكثير من الأمم والشعوب قد مرت بمثل هذا البرزخ الجهنمي ولكنها اجتازته أيضا.

نحن نعيش فترة زمنية معينة نولد ونعيش ونموت ويجب أن نرى أبعد مما بين قوس الميلاد والموت.

لذلك أؤمن بأن الأمة العربية شأنها شأن أي أمة أخرى لا يمكن أن تموت ما دام لها تاريخ وكيان ووحدة ثقافة.

والشعر العربي لعب دوراً كبيراً منذ الجاهلية حتى الآن يصون وجدان الأمة العربية إزاء التحديات، وإزاء التعاسة والموت والغزوات الأجنبية والداخلية أيضا التي يتعرض لها الوطن العربي أيضا.

هذه الأمور مهمة جدا لأن العالم العربي لم يتعرض فقط للغزاة الذين يأتون من الخارج، بل تعرض لغزاة يأتون من الداخل.

* نظرة ليست تفاؤلية

من خلال هذا لا أرى المستقبل وردياً مشعاً، ولكن جدلية التاريخ هي هكذا. عندما نرجع إلى الحضارة الصينية والحضارة السومرية والحضارة العربية والحضارة الإغريقية والرومانية نجد الكثير من المآسي التي لم يقم بها الناس البسطاء وحسب، بل قام بها الكبار أيضا.

عندما نقرأ مسرحيات شكسبير مثلاً نكتشف جرائم كثيرة جداً. هكذا شأن البشر في كل العصور والأزمنة.

ولكن جدليا التاريخ يصفي هذه الأمور. أنا قلت في قصيدة من قصائدي “إن ميراث القتل يصفي”.

* ثمة شعراء عرب معاصرون يكتبون في الوقت الراهن ملاحم حول أن التاريخ العربي القديم كان بصورة عامة تاريخ الدم والمذابح والانحطاط والوحشية لا أى تاريخ آخر. لو أنك أردت أن تروي تاريخنا العربي كيف ترويه؟

– أعتقد أن هؤلاء لم يقرأوا ماذا حصل فى الإمبراطورية الصينية أو المغولية أو الإمبراطورية الرومانية أو الإغريقية نفسها أيضا. عندها سيجدون العجب العجاب: محاكم التفتيش والقتل والحرف والنبذ في كل مكان.

إذن لا يوجد عجب عجاب. إن ما يحصل فى العالم من جرائم يرتكبها البشر من كل الجنسيات والأديان والحضارات. هي ليست خاصة بتاريخ أمة دون أخرى. وإبراز هذا الجانب البشع وحده جريمة أيضا. عندما تصل أوربا إلى مثل هذا التقدم التكنولوجي لا يجوز أن ننسى أن هذا التقدم قام على أشلاء المستعمرات أيضا تضحيات ومعاناة جسيمة قامت بها شعوب مقهورة مظلومة.

إذن مذابح التاريخ قامت في كل زمان ومكان، ولا يخلو منها تاريخ أي أمة من الأمم.

لا توجد أمم هبطت من السماء وأقامت مملكة سعادة أو مملكة الله على الأرض.

والسلطات الحاكمة في كل زمان تمارس جرائم، ومن قال عكس ذلك؟

ولكن ليس التاريخ، ليس الحضارات، ليست الأمة. الفئات المستغلة الحاكمة.

لماذا يتجاهلون هذه القضية البسيطة التي يتجاهلونها، فيصمون أمة بأنها أمة مجرمة؟ هذا غير صحيح.

كان هناك فقراء وأبرياء يدافعون عن العدالة والحق. وهذا، قرأناه في كتب تراثية كثيرة. كان هناك شهود ضد شهود الزور، ضد الظلم، وقد دفعوا حياتهم ثمنا لهذه الشهادة.

ماذا بعد جيل الرواد؟

* ينتمي البياتي إلى جيل الرواد أو جيل الخمسينيات. بعد هذا الجيل ظهرت أجيال شعرية أخرى وصولا إلى الجيل الشعري الحالي. الكثير من الشعراء الرواد نفضوا أيديهم فيما بعد مما آل إليه الشعر بعدهم. من هؤلاء خليل صاوي وصلاح عبدالصبور ومحمود درويش الذين عبروا بمرارة عما ارتكب ويرتكب الآن بحق الشعر. فكيف تعبر أنت؟

– أنا لا أنظر إلى الشعر وإلى أجيال. أنظر إلى الشعراء فرادى، وأؤمن بالمواهب. الحقيقة أنه في كل الأجيال ظهرت مواهب جديدة مبدعة. أما الكثرة الكاثرة فهي موجودة في كل الأجيال حتى في جيلنا. فقد كان هناك مئات الشعراء الذين يكتبون الشعر، ولكن أسماءهم انطفأت واختفت تماما. لذلك لا أشعر بقلق على الشعر العربي أو من الأشكال الأدبية الأخرى. أنا شخصيا مع حرية الإبداع. يمكنك ان تكتب بأي شكل تشاء، ولكن بشرط أن تبدع أولاً. ودون الابداع ينتهي الحوار أو الجدال.

نحن نجادل أحيانا أيهما أهم: التفعيلة أو العمود، أو النثر؟ وما أشبه، ولكن أن ننظر في الابداع.

عندما أرى كاتبا مبدعا يكتب روايته أو قصة أو نصاً نثريا أو قصيدة. أنا أحبه واحترمه واحتضنه.

اذن يجب ألا ننسى قضية مهمة هي قضية الابداع. أولا: والنص الذي يخلو من الابداع يوجد مثله هذه النماذج في القصائد العمودية وقصائد التفعيلة والنشر أيضا. انت تتذكر محمد الماغوط وهو شعر لأنه يمتلك ثقافة ورؤية الشاعر، وعندما نشر إنتاجه لم ينظر إليه على أنه شاعر يكتب النثر، بل نظر إليه على انه شاعر لأنه يمتلك ثقافة ورؤية الشاعر. وهناك أسماء أخرى جاءت بعده أيضا تمتلك نفس موهبته وعلينا ألا نغض الطرف عن هؤلاء. لكن الذي يبعث على التشاؤم والتساؤل الكثرة الكاثرة. أصبحنا لا نستطيع المتابعة وقراءة كل شيء. المجلات العربية من الخليج إلى المحيط مليئة بالشعر والقصص والروايات التي تظهر أفواجاً وأرتالاً من الكتاب، وهذه ظاهرة من الطبيعي أن تظهر في بلدان العالم الثالث. ولكنها ظاهرة ستصفى في النهاية فلا يبقى إلا المبدع الذي يستمر في الإبداع.

* بمن تعترف دولة البياتي من الشعراء العرب المعاصرين؟

– أنا قلت وأقول الآن إن الجواهري هو آخر العباقرة الكبار في الشعر العربي الكلاسيكي. وكذلك هناك شاعر كالبردوني لا شك في أهميته. هنالك شعراء مثل سعدى يوسف ومحمود درويش ومحمد علي شمس الدين وشوقي بزيع وأحمد عبدالمعطي حجازي وعفيفي مطر وعبد العزيز المقالح، وأسماء أخرى كثيرة.

هؤلاء قدموا إنجازات طيبة يجب أن ندرسها ونهتم بها.

أنا والحداثة

* لم أقرأ لك يوماً بحثاً في الحداثة أو كلاماً عليها، فلماذا كان هذا التخلف عن الركب؟

– أنا أقرأ ما يكتب عن الحداثة ولا أفهم شيئا منه. كنت أستاذاً للغة العربية وقرأت التراث العربي قراءة جيدة، وأعرف الدلالية في اللغة العربية تماما، ولكني لا أرى هناك فائدة من هذه الكتب والأبحاث التي كتبت في العربية عن الحداثة. ربما تشبه وصفات الأطباء التي تصنع لك ماء، ولكن هذا الماء موضوع في قنينة، وأنت تتصور أنه دواء. فائدة مثل هذه الأبحاث، أنا قرأت بعض ما كتب حتى عن شعري ولم أستفد منه أي فائدة، فما بال القارئ؟

لا بأس من أن يكون هناك ناقد أو كاتب واعد، أن يكتب عن مثل هذه الأمور لكي يضيف إلى الثقافة العربية شيئا جديداً متداولاً في أوربا، ولم يعد يتداوله الأوربيون الآن أبدا. إنما أن يصبح كل النقاد هكذا، وحتى بعض الذين لا يعرفون لغات أجنبية يقرأون ما هو مترجم في العربية ويسيرون في نفس الطريق.

أضحك أحيانا عندما أتذكر صديقا وناقدا أحبه كتب أكثر من عشرين صفحة لكي يقرر من خلال هذه “الخزعبلات” هل أن “عائشة” في شعري هي رمز أم أسطورة أم قناع؟ وقد سألته بعد أن تعب وكتب هذه الدراسة: ما ضر لو كانت قناعاً أو رمزاً أو ما أشبه؟ أنت لم تتحدث عن عائشة وكيف ظهرت في شعري كقوة ملهمة، كربة للشعر، عن القصائد مثلاً وهو لم يتحدث عن كل ذلك، إنما كان مذهولا من السطر الأول. إلى السطر الأخير حول بحث ما إذا كانت عائشة في شعري رمزاً أم قناعاً.. وما الذي يهم القارئ أو يهمني إذا كانت رمزاً أو إذا كانت قناعاً؟

أيها النقاد الجدد اتئدوا.. وانظروا إلى اتجاه، وآثار إحسان عباس ومحمد مندور وعبدالقادر القط.

أقول لمثل هؤلاء: اتئدوا وخففوا من غلوائكم.. النقد البناء الحقيقي المتداول في أوربا على يد الأساتذة الكبار يكاد يختفي. أنا أتمنى أن يولد نقاد جدد يسيرون على خطى الدكتور إحسان عباس على سبيل المثال، أو الدكتور محمد مندور أو الدكتور لويس عوض أو الدكتور عبد القادر القط، لا أن يقلدوهم، ولكن أن يطوروا هذا الاتجاه ويعمقوه.

الشاعر ناقداً

* وهل تعتقد بإمكان أن يكون الشاعر باحثا أو ناقداً أيضا؟

– لا أبداً. عندما يتحول الشاعر إلى ناقد يكون شعره من الدرجة الثانية أو الثالثة، كما هو الحال عند أدونيس مثالاً. أنا أعتبر أدونيس – وبأمانة شديدة جداً – شاعراً من الطبقة الثالثة أو الرابعة.

أما كناقد، فهو يشبه أستاذا جامعيا يستطيع أن يكتب قسما من التراث العربي القديم معتمدا في ذلك على دراسات المستشرقين، ويترجم له الآخرون إلى العربية، ويلفق ويخلط بين النصوص.

أنا أنصح أدونيس إذا كان يريد أن يدافع عن الإنسان العربي ضد الظلم والجهل، أن يضحي بالقليل من راحته ويواجه الظلم والشر الذي نواجهه في المشرق العربي، لا أن يجدف ضد التيار وهو جالس في باريس، ولا يتحدث عما يحل بنا من مظالم. لا يدافع عن حقوق الناس.

العالم لا يحترم الخفافيش التي تختفي في الظلام وتتحدث عن حرية مزعومة. ولكن العالم يحترم العمالقة. بابلو نيرودا دفع حياته ثمنا لمبادئه. وقف ضد الفاشية وأيد القوى العاملة في بلاده. بوشكين، تولستوي، دافعا عن الإنسان كجوهر ولم يكتبا عن السفاسف.

أدونيس يسعى في الغرب لنيل جائزة نوبل. ولكن جائزة نوبل تفقد مصداقيتها إذا أعطيت له، فهو شاعر من غير طينة الشعراء الكبار، وهو ظاهرة شاذة بالدرجة الأولى.

أعطيت جائزة نوبل مرة لشاعر تشيكي لا أتذكر اسمه الآن قد لا يكون هذا الشاعر التشيكي متوسطا ولكنه شاعر شريف اضطهد من قبل السلطة الشمولية في بلاده في ذلك الوقت. شعره كان متوسط القيمة، ولكنه أفضل بالطبع من شعر أدونيس بكثير.

ولا أفهم كيف يفهم القارئ الأوربي شعر أدونيس إذا كان شعر أدونيس لا يفهم بالعربية، فهل يفهم بالأجنبية؟

إن تسعة وتسعين بالمائة أو مائة بالمائة من الذين يقرأون شعر أدونيس لا يستوعبون. تحدث بعضهم فوجدت أنهم لا يفهمون.

والترجمات ربما حي شعر آخر كتبه ناس آخرون ليس لهم علاقة بالنص وأنا أتحدى أن يأتيني أحد بشيء مترجم لأدونيس إلى الفرنسية ويعيد ترجمته الى العربية ويكون مطابقا للنص العربي.

إنني أدين ظاهرة تعامل بعض المثقفين العرب مع مؤسسات أجنبية ظاهرة تستخدمهم في حين ان هؤلاء يتصورون أنهم يستخدمون هذه المؤسسات.

وجها لوجه

الطاهر وطار وجهاد فاضل

من حسن حظ الكاتب العربي أن له امتداد في التاريخ

يقدم الوضع الجزائري القلق والمليء بالأنزياحات والدماء أبلغ مثال على ارتباط الفكر والأدب بالتحولات. ويبدو جليا من خلال التصريحات والتصريحات المضادة ومن خلال أعمال القتل التي يتعرض لها المثقفون أن الأساس المعرفي وبنى التفكير هو الصاعق الذي يدفع الموت… أو الحياة من حجرة الانفجار! المفكر والروائي الجزائري الطاهر وطار ليس محايدا ، لا فيما يتعلق بالتعريب والثقافة الفرانكفونية ولا فيما يتعلق بمقولة “الظهير البربري” التي عجز الفرنسيون عن جعلها واقعا عمليا وتحاول جهات أخرى فعل ذلك الآن. ليس محايدا… لأنه يطرح مفهوما محددا للهوية. ويعيد قراءة الواقع اليومي للناس البسطاء الذين أتعبهم القتل.. ولوثت حياتهم الدماء. كلما فر مثقف أو صحفي أو كاتب جزائري خارج وطنه ازداد تعلق الطاهر وطار بالوطن.. وكلما سلخ البعض جلودهم وهاجروا خارج انتماءاتهم الضيقة ذهب الطاهر وطار عميقا في التزامه الذي نذر قلمه وعقله له منذ البدايات ، لأن انتماءه أرحب وأوسع وأكثر حبا. ويشهر مع رفاقه “الجاحظية” خطا ثقافيا وفكريا يؤسس لجزائر أكثر حرية ليتعايش فيها كل الجزائريين أكثر عقلا ليكفوا عن تبادل الموت. كتب الطاهر وطار أكثر من قصة ورواية معروفة على مستوى الوطن العربي أشهرها : اللاز، وعرس بغل ، والحوات والقصر والضابط ، والزنجية ، والشهداء يعودون هذا الأسبوع. وحاوره جهاد فاضل وهو المشرف الثقافي لمجلة “الحوادث” اللبنانية وقد أجرى أكثر من حوار لـ “العربي” مع العديد من الكتاب والمفكرين العرب.
هناك إلى جاب كاتب ياسين رحمه الله مجموعة من المثقفين الجزائريين باللغة الفرنسية خاصة ، يهاجمون عروبة الجزائر ويهاجمون قيمها وثوابتها ، ويعللون ما يجري حاليا في الجزائر بتعليم اللغة العربية كما لو أن اللغة العربية هي حاملة لفيروس ظاهرة التطرف وقد قالها أخيرا مغن من منطقة القبائل في القناة الثانية الفرنسية زاعما أن سبب أزمة الجزائر هو تعليم اللغة العربية.

هؤلاء المثقفون مرتبطون وجدانيا بفرنسا ، بالثقافة الفرنسية. وهم يزعمون أنهم يدافعون عن الهوية الأمازيغية أو البربرية. وهذا في جانب كبير منه كذب إنما هم يدافعون عن الثقافة الفرنسية.

أنا كنت مدير عام الإذاعة الجزائرية ووجدت القناة الثانية التي تذيع باللغة أو باللهجة البربرية ، تذيع فقط على هوائي قدرته خمسون كيلو وات ، بينما القناة الفرنسية تذيع بـ 1900 كيلو وات : 1200 علىالموجة الطويلة و600 على الموجة المتوسطة ، و100 على ال F.M فانتزعت 600 كيلو وات متوسطة وأضفتها لإخواننا في القناة الثانية الناطقة الأمازيغية. فاجأني مدير القناة وهو قبائلي بربري ، بقوله : والله لقد زعزعت القناة الثانية الفرنسية. أي أنه بدلا من أن يفرح ، احتج.

طبعا هناك الكثير من إخواننا الأمازيغ يتشبسون بأمازيغيتهم ، وهذا من حقهم ، لكنهم يقولون :”نحن لا نتخلى عن أربعة أشياء : أولا: جزائريتنا بكل ما تعنيه واللغة العربية وهي اللغة الأساسية ، ثم إسلامنا ، ثم معاداتنا للاستعمار الفرنسي”. صراحة هم يقولون ذلك.

هناك طرف ثان يزعم أن الشعب الجزائري عربي ، عربي دما وعرقا ، وهذا خطر ويثير حساسيات الناس. إن العروبة هي إسلام ، هي حضارة ، هي ثقافة ، تصور الحياة الأخرى ، هي طريقة إحياء أفراحنا وأحزاننا. وهذا أشرف بكثير من دم مغشوش أو مزغول أو يشك في أصله.

طبعا للجزائر خصوصية ، وهي تقريبا تكاد تشكل أمة فيها عدة عرقيات. عندنا زنوج ، عندنا برابرة ، عندنا عرب. هناك تداخل ، ولا أحد يدري من يكون. يتكلم الأمازيغية ، ولكنه يعيد نسبه إلى أبي بكر الصديق ، أو إلى الهلاليين أو إلى غير ذلك وهناك مناطق تخلت عن اللغة الأمازيغية ، ونحن نعلم تماما أنها من صنهاجة مثلا.

وأعتقد أن هذا الموضوع لم يواجه بعقل وبعلم وبتسليم بالامر الواقع. وعلى كل ، ومهما كان الأمر ، فقد أظهرت الأحداث الأخيرة التي تجري في الجزائر ، أن هناك وحدة في هذه البلد الكبير انصهرت وتبلورت عبر أجيال من المعاناة ومواجهة الآخر ، وانصهرت أيضا في إطار الدين ، في السنة وفي المذهب المالكي. واليوم كل مناطق الجزائر لها ردود فعل واحدة وأنا أقول إننا والحمد لله لن نخاف على وحدتنا الترابية والوطنية عبر خمسين سنة أخرى. وهذا مهم جدا.

أنا شخصيا أدعو إلى احترام تراثنا اللغوي وليس إلى شيء آخر ، لا أقول الثقافي. الثقافة هيكلية كاملة. ترك لنا أجدادنا أصواتا طويلة عبرت خمسة عشر قرنا من وجود اللغة العربية. عبرت قرونا من وجود الرومان والبيزنطيين ، عبرت قرونا من وجود الفنيقيين ، ووصلتنا ، فحرام أن نضيعها بهذه البساطة ونعوضها باللغة الفرنسية مثلا أو ما يشبه ذلك.

بإمكاننا أن نجد حلولا عقلية ومنطقية. لماذا لا تعلم الأمازيغية لمن يريد؟ يوضع لها منهج ، يكون لها أساتذة ومعلمون ، والمناطق التي يقرر مجتمعها أن يتعلم أولادهم الأمازيغية ، فليتعلموها إلى جانب اللغة العربية. واللغات الحية الأخرى.

الغريب أن “الظهير البربري” ينفذ الآن ، أي بعد رحيل الفرنسيين الذين أصدروه بسنوات طويلة ، في حين أنهم لم يستطيعوا تنفيذه خلال الفترة الطويلة التي استعمروا فيها الجزائر وبقية اقطار المغرب العربي..

الأمور يرتبط كل منها بالآخر ، وعصرنا هذا هو عصر البحث عن الذات والهوية. وأنتم تلاحظون أنه في بعض المناطق العربية نعرات قبلية ، بين قبيلة وقبيلة وتستخدم الطائرات أحيانا.

وهذا شيء طبيعي في منطقة شمال إفريقيا والمغرب العربي أن تظهر هذه النزعة. ولكن من غير الطبيعي ألا تواجه بالعقل والمنطق ، فتبقى نارا تحت الرماد مثلا. هذا مخيف ويخشى أن تتحول إلى مشاعر قومية.

بالاضافة إلى ان حالتنا كعرب ، هزيمتنا عام 1967 ساهمت في كه الناس ، اذا شئت ، لذاتهم. محاولة التخلص من هوياتهم ، أو التنكر لها بتعبير أدق. كذلك ما جاء بعد 1967 إلى اليوم ، الحالة التي نحن عليها ، من تمزق إلى تخلف ما تعرفه ونعرفه…

امتداد الكاتب في التاريخ

هل تشعر بأنك تنتمي إلى خريطة الروائيين العرب ، والرواية العربية ، أو أنك تكتب رواية جزائرية محضة؟

لقد قلت في مناسبات كبيرة أنه من حسن حظ الكاتب العربي أن له امتداد عبر التاريخ ، عصر الماضي والحاضر والمستقبل. أنا عندما ادخل مكتبي أجد الشنفرى ، وأجد أبا العلاء المعري ، واجد الإمام البخاري ، واجد عبدالوهاب البياتي واجد البردوني ، واجد محمود درويش وأنام وأنا أتصور أنني في الصباح سألتقي أحدهم لأن هؤلاء هم باستمرار زادي ورصيدي. وعندما اكتب لا أتصور أنني أبدا في الجزائر ، وأنني في زمن ما : أحيانا أنا في مسقط ، وأحيانا في الرقة ، واحيانا في بيروت. وأنا واثق تمام الوثوق من أنني سأقرأ أن لم يكن اليوم فغدا أو بعد قرن في هذه المناطق. وعندما أكون في الرياض ويقول لي الشباب المثقف فيها نحن قرأنا لكم رواية أجد أن هذا طبيعي. فأنا كتبت لهم ولسواهم من المثقفين العرب ، وأنا أتجنب في رواباتي استعمال الحوار بلهجة غير الفصحى.

هذا بالإضافة إلى قناعتي بأن الفن هو ترجمة العادي بما في ذلك لغة الشخوص التي نعالجها ونحولها إلى لغة الكاتب ، وليس من الضروري أن تكون باللهجة العامية كما لو أننا في سينما أو في مسرح ومن حين حظ امتنا أن لها هذه المناعة ، المناعة في اللغة ومهما كانت الحدود ، مهما كانت الأعلام ، جوزات السفر ، مهما كانت وزارات الدفاع ، فهناك شيء يخترق هؤلاء الناس هو اللغة العربية وما تحمله من عبقرية أبناء هذه الأمة.

اليسار والعقل

كنت أشعر بسعادة وأنا أسمعكم تقولون إنكم تنتمون أصلا وفصلا ، إن صح التعبير ، إلى الثقافة العربية ولكني اعرف أنكم تنتمون ، أو كنتم تنتمون إلى فئة كتاب اليسار والاشتراكية ، أحب أن أعلم إلى أين تنتمون.

الآن بعد الذي حصل لليسار والاشتراكية في العالم ، أين ذاك الحلم وأين تلك القضية في الوقت الراهن؟

أنا من اليسار الذي يستعمل العقل ويفرق بين الثابت والمتغير. الثابت بالنسبة هو الطبقة العاملة ، مصلحتها وحقوقها وما عدا ذلك فهو متغير. الطبقة العاملة بقيت في روسيا ، بقيت في كل مكان ، لكن أحزابها ضاعت ، ترهلت ثم ضاعت.

في عام 1959 كان اليسار يعادي الرئيس جمال عبدالناصر رحمه الله. وأنا استمعت ، ولم أكن ناصريا أبدا ، ولا قوميا بالمفهوم المقنن للقومية ، إلى خطابه السياسي يشرح حقوق الطبقة العاملة ويهاجم الاستغلال ويهاجم الطبقية ويهاجم الإقطاع والرأسمالية ، فتساءلت : كم من منشور ، كم من خلية حزبية ، كم من فرع نقابي يستطيع إيصال ما يوصله هذا الرجل؟ إنني لم أكن أشاطر اليسار في معاداة عبدالناصر.

واليوم أنا راجعت نفسي وقلت هذا في روايتي الأخيرة التي نشرت في مصر ما هدف الطبقة العاملة؟ ماذا ستخسر؟ الثابت هو أنها ستطالب بالتوزيع العادل للثروات ، ستطالب بساعات عمل اقل ، ستنظم نفسها بشكل أو بآخر ، قد تكافح اليوم مع الإسلاميين ، وغدا تكافح مع سواهم. هذا حقها ما دام هناك عمل ، هناك مطلب بتقليل ساعات العمل ، ورفع من الأجر ، وهذا هو دوري كيساري.

أما مطالب بعض رفاقنا ، فهي مطالب بورجوازية صغيرة ، مطالب “كومونة باريس” : حرية ، إخوة ، مساواة ، ديمقراطية تتيح لهم الترشح وهم واثقون من إنهم لن ينجحوا إطلاقا.

كنا في موسكو في عام 1986 ، حضرنا “فوروم” السلام ولاحظت انني ضمن كاردينالات وأساقفة ورجال دين وأصحاب أعمال أمريكان وصهاينة من كل نوع ، وكان معنا أحد “دهاقنة” الفكر الماركسي ، لا اسميه احتراما لماضيه ن كان يقول : غورباتشوف سيحرر الحزب من جموده ، والديمقراطية التي كانت تنقصنا هي التي ستبني فعلا الاشتراكية وتسمح لنا بتجاوزها إلى بناء شيوعية ، إلى غير ذلك.

صبرت قليلا ثم خاطبته بالذهنية الجزائية الحادة قلت له ك سامحني! إنتم صفقتم لستالين ، صفقتم لخروشوف ، صفقتم لبولغانين ، صفقتم لمولوتوف ، لكل الناس ، دعونا نحن الجيل الذي أتي بعدكم نستعمل عقلنا ، نحن إلى أين ذاهبون؟ قال لي : لا ، لا.. حاول أن يقنعني ، ولكن في المطار وأنا أودع البلد ، قالت لي مرافقتي وهي صديقة مترجمة : إلى اللقاء في المرة المقبلة. قلت لها تكون هناك مرة مقبلة. كان حسي كفنان يؤكد لي ما قلته في روايتي “عرس بغل” من أننا نقيم أعراسا عقما ، من أن الطبقة العاملة تمت خيناتها من طرف بورجوازية مثقفة ، من نخبة صارات مصالحها ترتبط بمصالح رأس المال العالمي. وكان لا بد من هذا نظرا للتطور الذي بلغه العالم والتداخل الحضاري بواسطة وسائل الإعلام الحديثة ووسائل النقل المتنوعة. كان لا بد من العودة إلى الصفر وها نحن في حالة صفر.

واعتقد أن هناك كثيرا من اليساريين يشاركونني هذا الرأي وهذا التحليل.

عن أي يسار تتحدث؟ تعرف أن هناك أكثر من يسار. الماركسية مثلا يسار. فهل كنت يوما ماركسيا؟ ألا ترى أن الماركسية على النحو الذي عرفها العالم طوال سبعين سنة من عمر أنظمتها في روسيا وأوربا الشرقية قد انتهت إلى الأبد؟ هل يمكن ان توهب حياة في المستقبل لمثل هذه النظرية المتراجعة؟

أنا لم أقل في يوم من الأيام إنني ماركسي ، أو أنني شيوعي. ولم اكتب هذا في رواياتي أيضا.

أنا أقول إنني مناضل عمالي بهذا التعبير واكتفي بهذا. أنا لا أزال مناضلا عماليا غير محتزب أصلا. كنت في حزب جبهة التحرير الوطني طوال عشرين أو خمس وعشرين سنة.

أما هذه التصنيفات فاترك للناس أن يستخلصوها من كتاباتي. أنا لا أجازف بتصنيف نفسي.

ماذا يعني الالتزام؟

تصنيف النفس والالتزام.. لا تجازف بتصنيف نفسك ولكن الجميع يعلمون أنك روائي وكاتب ملتزم باليسار ، بالنضال العمالي.. ولكن ألا يجني مثل هذا الالتزام على الفن والعمل الفني؟ ألا تري أن مثل هذا الالتزام لم يعد من كرامات العمل الفني وأنه انحسر انحسارا شبه تام ، في عصرنا اليوم ، وأخيرا ألا تري استنادا إلى تاريخ الالتزام الذي تمثل في تبعية الأدب للسياسة ، أنه ينبغي إعادة الاعتبار لنظرية طالما أهينت اسمها نظرية الفن للفن؟

إذا كنا نحكم بفشل أية أيديولوجية بعدم تطبيقها فهذا خطر. سنعود إلى الحكم على الإسلام من خلال تطبيق هذا أو ذاك من الحكام أيضا على أنه أيديولوجية فاشلة. كذلك سنحكم على المسيحية وعلى كل ديانة أو كل فكر أو كل عقيدة.

والالتزام لا يعني أن الإنسان يأخذ عريضة أو لائحة من المبادئ والمقاييس ويقول إني اكتب بها ، أو في إطارها.. لا ، كل إناء بما فيه يرشح ، نحن لا يمكننا أن نقول لمحمود درويش : لا تتغن بفلسطين واكتب عن مواضيع أخرى! هذا جزء من محمود درويش.

بقي الفن للفن ، أو التجريد. هذه أيضا أيديولوجية ، أنا في تحليلي أن الكلمة حوربت من طرف المؤسسة الرأسمالية المستغلة ، لماذا؟ لأنها عبر التاريخ هي التي تحمل الناس على الثورة ضد الاستغلال وضد الظلم والاضطهاد ، ولأنها الشيء الوحيد الذي لا يستطيعون أن يتحكموا فيه لأنه يصنع فرديا ولا يصنع جماعيا. القصيدة لا يقولها أربعة شعراء ، وكذلك الرواية بينما السينما قد يصنعها ألف شخص ، كذلك المسرح.

وعليه فقد حاربوا الشعر وقتلوه بهذا الزعم ، بزعم الفن للفن ، والتجريد والسريالية وغير ذلك.

حاربوا القصة القصيرة. واليوم لا تجد في أوربا من ينشر مجموعة قصصية. وهم يحاربون الرواية اليوم وسيقتلونها أيضا. ولكن هناك أشكالا حديثة أخرى ستظهر من مقاومة البشرية لآلمها ومعالجتها بالكلمة وستظل الكلمة هي البدء.

وأنا شخصيا في كتاباتي لست ذلك المبشر. استعملت البطل المضاد في كل أعمالي ، بينما الواقعية الاشتراكية تحتم البطل الإيجابي. كل ابطالي مضادون. استعملت السريالية أيضا. استعملت التجريب في “عرس بغل” إلى جانب مدارس أخرى. واعتقد أن الكاتب والمبدع الموهوب هو الذي يتحكم في المدارس ويوظفها لا العكس.

الموت لا يخيفني

كل إنسان يخشى الموت. ولكن في الجزائر أشعر بان هناك خشية اضافية للموت عند الكاتب لانه في اية لحظة يمكن ان يواجهه. فهو على تماس معه نظرا للمعاناة اليومية للمواطن الجزائري اليوم. اية صلة لك بالموت؟ هل تشعر بانك قريب منه ، وأي معني للموت عند كاتب جزائري لم يمت بعد؟

والله هذا سؤال جيد ومهم لان لي في الواقع علاقة ما بالموت.. الموت لا يخيفني بل أراه أحد الواجبات التي ينبغي أم أعجل بها وكثيرا ما أقول لزوجتي “لقد أطلنا المقام في هذه الدنيا”.. وهذا شعور صادق وصحيح ، ولا يحتاج إلى برهان مني القول بأننا جميعا ميتون. وأنا لي رأي وربما تجده في الكثير من أعمالي وهو أنه يكفينا أن نعيش فترة معينة لنذوق جميع ما يذاق ، ونمارس جميع ما يمارس ثم نعود من حيث جئنا ، وإذا كان ولا بد “فلنعد جميعا سليمين وصاحين”.

بالنسبة لما يجري في الجزائر ، أقول لأصدقائي وأقول لزوجتي “يكونون قد خدعوا أنفسهم إذا قتلوني لأنهم سيريحونني من تحملهم ، من هنا أو من هنا”.

لو أنهم يعلمون بأنني أحب الموت فلن يقتلوني. فعلا هذه حقيقة وأنا أسير في جميع الأماكن والطرق بما في ذلك الأماكن الخطيرة ولا أخشى أحدا. وأؤمن كذلك بان هناك علاقة ما ، نداء ما ، بين الكائن والتراب ، بين الطبيعة بكل مكوناتها. ولهذا عندما نقول الموت ساعة وقدر ، بقطع النظر عما جاءت به الأديان ، وحتى عما جاءت به الميثولوجيات ، يمكن تقديم تفسير علمي إلى هناك نداء بين خلايا المخ البشري وخلايا جسده ، وبين مكونات الطبيعة الأخرى ، مثلما هناك حوار بين الأشجار والكلمات كما يؤكد العلم الآن.

وعليه فأنا اعلم بان الموت قدر. بن يحي وزير خارجية الجزائر وقعت به الطائرة في إفريقيا فلم يمت ، ثم مات وهو في الطائرة في طريقه إلى إيران ، استجاب لساعته ومات.

في الجزائر تعودنا ، كما تعودتم في لبنان ، على سماع الرصاص ، تعودنا على سماع إنذارات النجدة وسوى ذلك. وصارت الجنازات عادية قد نحضرها وقد لا نحضرها ، إنها حالة حرب. هناك دائما وأبدا إحساس بالضيق ، وأنا فقط هذه تقلقني هذه الوضعية بأنني في جمعيتنا “الجاحظية” لا أستطيع أن أمارس النشاط الثقافي بصفة طبيعية : تنظيم محاضرات ، تنظيم لقاءات ، تنظيم عروض ، معارض ، إلى آخره. هناك دائما عائق ما بسبب الوضعية.

لا إكراه في الرأي

ما هذه الجمعية الثقافية التي تعملون في إطارها؟

هذه الجمعية ، واسمها الجمعية الجاحظية تأسست عام 1989 في إطار التعددية وإطار تحمل المجتمع المدني لبعض مهامه. انشأناها انتماء فكريا فسميناها “الجاحظية” حتى نميز أنفسنا عن جميع الذين لا يستعملون العقل. فقد لاحظنا ان العقل يغيب في الكثير من مناطق عالمنا المعاصر. وفي الجزائر هناك متفرنسون متطرفون ، إسلاميون متطرفون ، هناك معربون متطرفون. فقلنا نعود إلى العقل متشبثين بتراثنا ، متشبثين بانتمائنا الحضاري وسميناها “الجاحظية” وتعبنا في إقناع الناس بهذه التسمية واخترنا لها شعار “لا إكراه في ارأي”. وبالتالي قررنا ألا نمارس السياسة في هذه الجمعية. جمعيتنا تضم جميع الحساسيات مقتنعين بان السياسة فسدت الثقافة ، وبأنه ينبغي الآن عمل العكس ، وهو تثقيف السياسة.

وهكذا كان الأمر ، واقنعنا الناس بعد ثلاث أو أربع سنوات بصدق زعمنا ونيتنا.

وتضم “الجاحظية” الان يساريين واسلاميين وناسا وسطا ، تضم عناصر من جميع الأحزاب ولا نسأل بعضنا بعضا إطلاقا لأي حساسية أو عصبية ينتمي هذا أو ذاك.

نصدر مجلتين الأولى (التبيين) وهي مجلة ثقافية فكرية تقريبا يكتب فيها جميع الناس. ونصدر مجلة أخرى للشعر المغاربي حيث ننشر فيها القصائد التي تنجح في مسابقة مفدي زكريا المغاربية للشعر التي ننظمها كل سنة ، وكذلك القصائد الجيدة ، إلى جانب بعض الدراسات الخاصة بالشعر وهي تقريبا الأولى من نوعها في شمال إفريقيا وفي المغرب العربي وفيها شعراء من هذه المناطق كلها. إلى جانب مختارات نختارها للشعراء العرب نختار سميح القاسم أو محمود درويش أو شوقي بغدادي أو أي شاعر عربي كنموذج نقدمه لقرائنا ولأعضاء الجمعية.

لنا وحدة تصفيف بالكمبيوترات تضم احد عشر كمبيوترا ولنا مطبعة صغيرة نسعى لتطويرها ، ولنا قاعة للمحاضرات. لنا قاعة عرض لوحات فنية كل شهر ننظم معرضا. ننظم في السنة حوالي ثلاثين محاضرة وندوة. نعلم الموسيقي لمائة طالب من جميع الأعمار ، والخط العربي .

لنا مكتبة صغيرة نبيع فيها مجلاتنا ، وكافتريا سميناها “الوكر الثقافي / مفدي زكريا” هي باستمرار نقطة التقاء ولقاء جميع المثقفين والفنانين.

جمعيتنا ليست بديلا لحد ، لا لاتحاد الكتاب ، ولا لوزارة الثقافة ، بل نحن رافد للآخرين. ونطمح لتقديم خدمة لنا أولا ، للمثقفين لكي يوجدوا مع بعضهم البعض ، والى مجتمعنا بصفتنا مجتمعا مدنيا.

نعاني صعوبات منها أن المثقفين في الجزائر وككل بلد له حزب واحد ، ناس تعودوا على الاخذ ولم يتعودوا على العطاء. فدائما أيديهم قاصرة في إنجاز عمل ما.

أيضا مجتمعنا لا يعرف ولم يعتد وجود مثل هذه الجمعيات الثقافية ، وهذه النوادي حتى يمولها ، يعرف الجمعيات الدينية ، يعرف الجمعيات الرياضية ، ولكن الجمعية الثقافية المحضة تظل دائما في نظره من مهام الدولة.

نعاني أيضا حساسيات شعراء وهذا شيء طبيعي. ولكنك عندما تقول في الجزائر “الجاحظية” ، الجميع يعرفون جمعيتنا الحياة العادية للمجتمع ، دخلنا ضمن العادي للمجتمع الجزائري وحتى المغاربي ، وبخاصة في تونس والمملكة المغربية.

وأنا متفرغ لهذه الجمعية أشتغل يوميا عشر ساعات وأقوم بإخراج المجلات لأني اعرف المطبعة والكمبيوترات واعمل مجانا ، بل ادفع غدائي في النادي من جيبي ، وأعطى المثل للجميع.

نشغل في الجاحظية اثنى عشر شابا وشابة. منهم من هو في المطبعة ومنهم من هو في الكمبيوترات ، وأيضا نعلم الآلي.

وهذه تجربة فذة أتمنى ألا تعرقل ، وأتمنى أن تتواصل بي أو من دوني ، حتى لا يكون مصيرها مصير الكثير من الإنجازات في وطننا العربي.

وجها لوجه

الدكتور عبدالسلام المسدي وجهاد فاضل

كلما أوغلت البشرية في التخصص الضيق، برز احتياجها إلى تكامل المعرفة
المناهج الحديثة في النقد ساعدت على إعادة استنطاق النصوص القديمة يتعرض
هذا الحوار مع المفكر والناقد التونسي الدكتور عبدالسلام المسدي لقضيتين رئيسيتين: قضية النقد وقضية الحداثة. ومن الواضح أن القضيتين استأثرنا وتستأثران الآن باهتمام النُخَب العربية المثقفة التي لا تدري بالضبط وجه الصواب في التعامل معهما. هل النقد الحديث السائد الآن بمدارسه المعروفة هو النقد الذي يؤمل منه الخير لأدبنا العربي والذي بإمكانه ان يضطلع بمهام النقد المختلفة؟ هل النقد الحديث الذي أوغل في الإحصاءات والبيانات هو النقد الحقيقي، أم ان النقد شيء آخر بإمكانه ان ينتفع فقط بهذه الإحصاءات والبيانات؟ وهل الحداثة هي القطيعة مع التراث والجذور واستنساخ تجارب الآخرين في الحداثة، أو تشويه هذه التجارب كليا على الأصح، أما أنها شيء آخر تماما لا يمكنه في خاتمه المطاف إلا ان يكون وليد الحاجات الموضوعية العربية المختلفة؟. هذه الأسئلة وسواها مما يرتبط بها يناقشها في هذا الحوار الدكتور عبدالسلام المسدي الأستاذ في الجامعة التونسية منذ عام 1972 والمتخصص في مجال الدراسات اللغوية الحديثة وتطبيقها على الأدب وقد أصدر في هذا المجال أثنى عشر كتابا منها الأسلوبية والأسلوب، التفكير اللساني في الحضارة العربية، النقد والحداثة، قضية البنيوية، اللسانيات وأسسها المعرفية. كما أنه عمل وزيرا للتعليم العالي والبحث العلمي في تونس، كما عمل سفيرا لها لدى الجامعة العربية ولدى المملكة العربية السعودية. وقد أجرى الحوار الصحفي اللبناني جهاد فاضل المشرف على القسم الأدبي بمجلة الحوادث والذي أجرى الكثير من الحوارات مع الشخصيات الفكرية والعربية وأصدر العديد من الدراسات النقدية.

نود أن نسألك في مستهل حوارنا عن رأيك في حاضر النقد الأدبي عند العرب، وبخاصة مناهج النقد الحديث؟
في البدء يجب أن نذكرّ بأن كل شيء في عصرنا قد تطورنا وتغير تغيرا سريعا. وفي البدء أيضا يتعين التنبه إلى أن المعرفة البشرية بقدر ما أوغلت في التخصص الضيق احياناً، آمن روادها من جديد بضرورة تكامل المعرفة وتكامل أفنان شجرة العلم بصفة عامة.

فمن المسلم به إذن ان كل حقول المعرفة تتأثر بهذا التطور الحديث، ومن باب أولى وأحرى ما يخص دراسات العلوم الإنسانية، والأدب واللغة على رأسها. والذي تجسمت به عملية التطور في هذا الإنجاز التغييري هو ان وظيفة الناقد قد تحولت من إطار تيسير المنال لدى القارئ. أعني على وجه التحديد ان الناقد الأدبي من قبل كانت وظيفته ان يبلغ إبداعية النص الأدبي إلى القارئ بحيث يبصره بالسمات المميزة للنص الأدبي في شاعريته وإبداعيته. فبذلك كانت مهمة الناقد تندرج ضمن إطار يمكن تسميته بالإطار التربوي العام، أو الإطار البيداغوجي العام أي إطار التيسير ورسم مسالك المنال الأسهل.

وبحكم التغيير الذي طرأ على مستوى المعارف الإنسانية عامة وعلى طرق تناول النص الاالأدبيتجة للتأثر بالعلوم الإنسانية الأخرى سواء منها علم النفس أو علم الاجتماع أو علم اللغة الحديث فإن مهمة الناقد قد تطورت أيضا بدورها، وأوكلت هذه المهمة التعليمية إلى مستوى آخر من مستويات التعامل مع النص الأدبي. أن يتعمق الظاهرة الأدبية في النص، وأن يجلو نواميسها الخفية بحيث يبرزها على السطح ويعطي التفسير الموضوعي العلمي الذي به تحوت اللغة من أداة تواصل عادي إلى أداة إبداع فني.

ولذلك فإن الناقد اليوم أصبح يكتب بلغة ليس من البديهي أن تُفهم لأول وهلة، وليس هذا من باب التعمية أو الألغاز، ولكنه ينطلق من أدوات معرفية إذا كان قارئ الخطاب النقدي لم يتسلح بثقافته بما يكفي ان يتيسّر له الفهم، ظنّ ان هذا الخطاب هو خطاب ملغز أو موغل في التعمية. ولذلك فإن ترتيب بيت العمل النقدي قد تغيّر وأعيد بناؤه من جديد هو صورة من صور تجاوز النص الأدبي الأول نحو نص إبداعي جديد عن طريق النقد.

وتباعا لهذا أصبح متعينا ان يتناول القارئ العادي النص، الأدبي تناولا تربويا أو تعليميا على سبيل غير سبيل الناقد المتخصص اليوم. ولذلك يمكن ان نقول ان الذين يساهمون اليوم في بناء النص النقدي هم أطراف مختلفون دون ان يكونوا متباينين: فعالم الأسلوب، وعالم اللغة، والباحث في بناء النص، أو الباحث في أبعاده السينمائية والعالمية، كل أولئك أطراف مساعدون لتشخيص ظواهر النص، وكلهم يقدم ثمره عمله للناقد الأدبي بالمعنى العام الذي يمكنه ان يُصدر حكمه النقدي انطلاقاً من تشخصيات موضوعية على مستوى اللغة وعلى مستوى بناء العلامات وعلى مستوى الأداء الوظيفي للنص الأدبي.

الممارسات النقدية

وعلى مستوى الممارسة النقدية الراهنة في الوطن العربي هل ترى ان محصول هذه النظريات كان جيداً؟
– ان هذه النظريات قد ساهمت قبل كل شيء في ترسيخ الوعي الجديد بالعملية النقدية. ولو لم يكن لهذه المناهج إلا فضل تنبيه الناس إلى الأدب قد دخل في مختبر كبير من المعارف الحديثة مختبر معرفي موضوعي، لكان هذا كافيا لها من حيث الفضل والرسالة.

ولكنه إلى جانب هذه الميزة، نشهد بأن النقد العرب يقد أفاد من هذه الطرائق بمستوى التعامل مع نمط معين من النصوص الإبداعية فالقصيدة الحديثة، ولغة بناء الشعر بشكل حديث، لا يمكن إطلاقا التوسل إلى فهمها والى تقويمها إلا عن طريق المعرفة النقدية الحديثة.

وجانب آخر من جوانب فضل هذه النماذج، يمثل في رأينا في أن هذه التوسلات المنهجية قد أمكن تطبيقها على مواريث الأدب العربي وقدمت عطاء إضافيا فيما يخص استنطاق النص الأدبي القديم. ذلك ان النص الأدبي القديم الذي كرسّه التاريخ وظل قائما في مخزوننا الحضاري باعتباره نصا مكرسا لا جدال حول قيمته الإبداعية يقدم اليوم إلى الناقد وهو مادة خام، فيتجاوز الناقد كل ما تراكم على هذا النص الإبداعي من تيارات نقدية كلاسيكية، ويعيد أحياءه بمنظور جديد، فكأن النقد الأدبي الحديث اليوم يتمتع بآليات هي بمثابة عدسات المجهر المكبر، أو عدسات المجهر الإلكتروني بعد ان كان السائد هو التوسل بالعين المجردة الكاشفة.

كل هذه مقومات إيجابية في تطعيم المعرفة العربية النقدية بالمقومات النقدية الحديثة. ولكن من الأمانة ان نذكر ان بعض المجازفات قد حصلت في تطبيق هذه المناهج النقدية. وقد تم ذلك على يد صنفين من جيل النقاد المعاصرين: الصنف الأول هم النقاد المنبهرون بالتيارات النقدية المستوردة والذين لهم قدم تأصيل في تراثهم النقدي والبلاغي عامة. وهؤلاء، وعلى حسن نية، راحوا يطبقون بشكل مباشر واختزال آلي، فأضعفوا بذلك من مصداقية هذه المناهج لدى غير المستأنسين بها. والصنف الثاني، ودون ان نلقي تهمة مبدئية، كأنما تعمدوا تطبيق هذه المناهج بشكل متعسف، ربما لتثبيت موقف من التاريخ لديهم يتمثل في ضرورة القطع مع الماضي بفصم حاسم.

وفي رأينا ان هؤلاء وأولئك معاً قد اضرّوا أولا بالمناهج الحديثة إذ شوّهوا سمعتها، اضّروا ثانيا بالأدب العربي عندما طبقوا ذلك عليه بتعسف.

التعامل مع النص

ثمة طرق مختلفة للاقتراب من نص ما: الإعجاب، الكشف، وما إلى ذلك.. كيف تقتربون أنتم من النص؟
– ربما بحكم تشبعنا بمنطلق منهجي، وهو التمييز بين لحظتين من لحظات التعامل مع النص، ما نسميه بلحظة القراءة من الدرجة الأولى ولحظة القراءة من الدرجة الثانية، أعني ان مستهلك الأدب، أي قارئه يتعاطى النص وهو مندفع نحو استهلاكه لا بالمعنى المادي الشائن، وإنما بمعنى الاستفادة أو بمعنى الانتعاشة برحيق النص، وذلك عن طريق التعامل الوجداني بين وعي ادبي مخزون ولغة ابداعية تشع بشاعريتها.هذه اللحظة هي لحظة تجاذب. فالنص يجذبك إليه، وأنت في سعيك إليه تجذبه نحوك. وربما هذه اللحظة هي التي تقرر أو تحددّ نية الانتقال إلى الدرجة الثانية حيث يعمدك الإنسان إلى الاستفسار في الدرجة الثانية عما وجد في النص بحيث شدّه إليه وحصل بفضله التجاذب. ولم يتوافر بأجزائه أو بكليته لانطفأ بريق النص أمام صاحب القراءة.

في هذه المرحلة الثانية يقوم الإنسان بتصنّع منهجي التعبير إلى نمط آخر، بصفة عملية، عندما أقرأ الجملة النثرية أو البيت، الشعري، أشعر بهذا الجذب المغناطيسي أحاول بصفة ذاتية ان أعيد بناء النص بطريقة مشوّهة فأقول لو عُبّر عن هذا بلغةٍ ما كأن يكون في الجملة هذه أو تلك، لفقدت طاقة الجذب في النص، فأعود من جديد لأتحسس الفارق لي وأتبين المسافة التي خرجت من اللغة التي لا تجذب إلى اللغة التي أشعث بإبداعيتها. وعندئذ أحاول ان اتمرس من الناحية اللغوية بما قد طرأ على النص أحيانا بحصول كلمة ما كان ينتظرها القارئ في ذلك السياق بالذات، وأحيانا بحصول ترتيب في أجزاء الكلام ما كان يهتدي إليه الإنسان لو تكلم باللغة على شيء عادي، وأحيانا بتوليد مجازات لا تخطر على البال من الوهلة الأولى. ويتدرج العمل من الجزء الصغير، وهو الجملة، إلى الجزء الأكبر، إلى السياق بأكمله. ويحاول الإنسان إذ ذاك أن يراوح بين لحظتين: التلذذ والاستمتاع ولحظة البحث عن الأسباب الموضوعية التي ولدت هذا التلذذ أو هذا الاستمتاع.

ولذلك فإن العملية النقدية تبدأ في نوع من المختبر، المختبر اللغوي مع النص. ويتدرج الإنسان شيئا فشيئا إلى ان يكون خطابا نقديا حول النص يراعي فيه تواصلا جديدا مع القارئ. وكثيرا ما نميل إلى أن نبني خطابنا النقدي على نمط لا يخلو من الإبداعية في حد ذاته بحيث يتوازى في شاعريته النص الأصلي، ويصبح القارئ للخطاب النقدي متعاملا مع اللغة الشعرية انطلاقا من النص الأدبي الواحد وصولا إلى النص النقدي الثاني.

التكامل المعرفي

وهل تنتهون إلى أحكام قيمة في النهاية، أم تتركون الأمور على سجيتها؟
– ترك الأمور على سجيتها لا يعني تعمد الالتباس. ولكننا في نطاق مصادرة منهجية، نؤمن بموجبها، اولاًن بحرمة الاختصاصات، ثانيا، بتكامل المعارف وتمازجها في نفس الوقت.

أنا شخصيا اتّحري دوما التعامل مع النص الادبي من موقع انني متخصص في اللغويات. فعالم اللسان إذا ما تقيد بسمته الأساسية تحتم عليه ان يعامل النص الأدبي من موقع تشخيص ظواهره اللغوية ليقدم وصفة التحليل إلى الناقد الأدبي الأصلي حتى يستفيد من هذه المقومات اللغوية، ويبني بعد ذلك حكمه في سلّم القيم. قد يصل التجاذب إلى ان يفضي الإنسان بما يقترب من أحكام قيمة ولكن الاحتراز الدقيق والذي نصّر على احترامه هو التشخيص مثلما يعمد فاحص الأعراض البدنية إلى البحث عن كشوفات بالأشعة أو بالتحاليل المخبرية لتتجمع لديه مقومات الحكم وإصدار القيمة. ولذلك فأنني أعتبر ان المحلل الأسلوبي والمستكشف البنائي والواصف السينمائي. كل أولئك يقدمون مادة بحثهم للناقد الأدبي الذي بوسعه ان يستفيد من عملياتهم الاستكشافية الأولى، وأن يّحصل مبدأ العملية النقدية في مستوى سلّم القيم.

أصالة الشابي

اعرف أنك درست الشابي الشاعر الذي يقول بعض الباحثين أنه أول من اسكن الشعر في تونس والمغرب، على أساس ان المغرب-المعاصر على الأقل، – لم يعرف قبله شاعرا بهذا المستوى. ولكن أصالة الشابي موضع جدل احياناً،. فمقابل من يتحدث عن أصالته، هناك من يعتبره مجرد صدى لأدب المهجرين شعرهم..
مما أصبح شائعا لدى الجميع ان ضربا من الفصام كان قائما بين جناحي الوطن العربي مشرقه ومغربه، وأن هذه الفترة التي طالت قلت فيها الجسور الرابطة بين الجناحين. وكان ان برز أبوالقاسم الشابي لا من حيث هو شاعر مبدع فقط، بل من حيث أنه رمز لهذا الجسر للوصل بين جناحي الوطن العربي في زمن افتقدت فيه قنوات الاتصال بين الطرفين. وقد كان هذا الجسر الرابط ذا اتجاهين: الشابي قد أفاد مباشرة من اطلاعه على حركة الإبداع في المشرق العربي سواء من حيث المكان أو من حيث الأصل لان مدرسة المهجر هي مدرسة المشرق العربي التي تحولت في طرف العالم الآخر، أو من حيث العطاء لان الشابي قد عُرف في المشرق العربي لأنه مدّ جسور الاتصال ونشر مجلة “ابوللو” وقُرئ.

هذا على مستوى القنوات الثقافية وما يتصل ببنية النسيج الفكري في وطننا العربي. ونتج عن هذا ان اقتصار حكم أخوتنا المشارقة على النهـضة الأدبية والفكرية في تونس من خلال نموذج الشابي فقط، قد ولد إجحافا ثقافيا وتولد عنه حيف فكري.

أما من حيث المضمون، فان أبا القاسم الشابي في رأينا قد مثل مشروعاً للإبداع الشعري لم يكتب له ان يتمّ. لا ننسى ان أبا القاسم الشابي قد مات في زهرة العمر، وأنه توفي ولما يتم عقده الثالث. فقد عاش ربع قرن في عمره بأكمله وعمره الشعري بين أول قصيدة قالها وآخر قصيدة نعرفها عنه يتحدد بتسع سنوات تقريبا. فضلا عما أصابه من الناحية الاجتماعية والصحية في تلك الفترة. كل هذا يدفعنا للقول بأنه قد كان مشروعا. ربما كان مشروعا عملاقا، لكنه لم ينجز، فالذي أنجز من هذا المشروع وهو بمثابة القواعد التأسيسية للعمارة الشامخة يمثل وعدا كبيرا، فهو شعر واعد بشكل بارز، ولا شك ان عوامل عديدة قد تضافرت على هذا التكوين وعلى هذا المشروع من بينها لا شك لا اقول التأثر المباشر ببعض المدارس الشعرية دون أخرى، وإنما أقول ان الميزة في كل ذلك، ان للشابي قابلية التمثل والاستساغة بما يخص الإبداع الشعري. وهذه سمة بارزة للموهبة الشعرية والإبداعية. فهو قد كان ذا طواعية طبيعية في أن يطوّر تجربته عن طريق التمثل الخارجي. ولذلك فإنه في تأثره فيما ما نسمّيه بالتأثر بالمدرسة الشعرية القائمة إذ ذاك يُعد شيئا طبيعيا حسب رأينا، بل يُعد إنجازا فاعلا في مستوى التواصل الشعري على الساحة العربية بالذات.

المشرق والمغرب

على صعيد توزيع الحظوظ الثقافية عبر التاريخ بين المشرق والمغرب يلاحظ بعض الباحثين ان المغرب أخذ حصته النقد والفقه والتنظير، في حين وهب للمشرق الشعر والإبداع بصورة عامة، كأن ذلك يشكل نوعا من الثوابت. فكيف تفسّر هذه الظاهرة؟
– الحقيقة أنه يصعب عليّ أن أقر ما تذهبون إليه لان فيه تجريدا للظواهر الثقافية، ولان فيه نوعا من الاختزال الذي لا يحق لنا ان نؤكد دون روائز اختبارية في البحث.

لكن الذي أسلم به هو ان المشرق العربي قد مثّل عبر تاريخنا المعين الأصل وقد تعامل المشرق العربي مع المغرب العربي علي هذا الأساس. وفى المقابل، وعبر التاريخ، نشهد أن المغرب العربي من حيث الريادة الفكرية قد كان دائما يطمح إلى التماثل مع المشرق العربي، ولعل البحث في بعض المسميات قد يؤكد هذا الجانب فكان إذا برز قطب في المغرب العربي على مستوى الإبداع جسّم تكريسه في الوعي الثقافي بتسمية ثانية تناظر بينه وبين رفيق له في المشرق.

ومن حيث الظواهر الثقافية، ظل المشرق العربي يعيش عقدة التبني للمغرب العربي. بعض ذوي النوايا المتشنجة يسمون هذا عقدة استعلاء. واكتفي آنا بالقول أنه مركّب التبني، فابن خلدون كأنما تختزل حياته في الفترة الوجيزة التي قضاها في المشرق، وبالتالي يدعي المشرق أنه ابن المشرق أكثر مما هو ابن المغرب. وابن منظور القفصى كأنما هو بالأساس برز بفضل وجوده لفترة ما في المشرق العربي. والأمثلة في هذا الباب عديدة. واعتبر شخصيا من موقع الاستكشاف الثقافي الواسع ان هذا التنافس حول ضبط انتماء الإعلام في حضارتنا، هو ظاهرة صحية وليست ظاهرة مرضية، لأنه إقرار غير مباشر بحكم القيمة المطلقة. ولأنه في نفسه الوقت يدل من خلال هذا التجارب على ان النسبة الحضارية هي نسبة واحدة بين الطرفين، وأن هذه فوارق خصوصية داخلية لا تضّر قيمة البعد الحضاري للامه العربية – في بعدها الإسلامي أحيانا- شيئاً.

ولذلك فنحن اليوم في منعطف تاريخي جديد ربما يتأكد على أنظمتنا في هرمها السياسي وفي أهرامها الثقافية والأكاديمية ان تعمل على تجاوز هذه العقد بحساسيتها المختلفة، وأن تتسامى إلى ما هو كون أوسع للامه العربية، ولاستشراف مستقبل سيكون الصراع فيه بعد اختفاء الصراع العسكري صراعا اقتصاديا من ناحية، وثقافيا من ناحية ثانية، وكأني بالمثقف ورجل الفكر والعالم سيتحتم عليهم ان يتجندوا في نضال حضاري جديد لن يكون بالضرورة صراعا دمويا على مستوى الفكر، وإنما سيكون صراع المساهمة في الحلبة العالمية الواسعة.

وجها لوجه

محمد شكري وجهاد فاضل

نحن نتحدث عن الديمقراطية لكننا نعيش القمع ونمارسه
الكتابة متعة ولولاها لشخت قبل الأوان
الحب تعرى كثيرا وفقد سحره في هذه الأيام
يؤلف القاص والروائي المغربي محمد شكري ظاهرة أدبية لافتة للنظر، فهو يستمد مادته الكتابية من عالم الليل أكثر مما يستمدها من عالم النهار، من عالم لم تألف الكتابة العربية التعبير عنه بصراحة، كما لم تألف مجتمعاتنا العربية معالجته معالجة مكشوفة وعلمية في آن، ولذلك ينظر الناس إلى محمد شكري على أنه كاتب خارج على شرعة الآداب السائدة، وهو كاتب جاء متأخرا نسبيا إلى الكتابة، فحتى الواحدة والعشرين من عمره لم يكن محمد شكري يعرف القراءة والكتابة، كما لم يكن يعرف من هذا العالم سوى عالم الليل في مدينة طنجة المغلفة بالأسرار والغرائب، ولكنه ما أن عرف كيف يفك الحرف حتى أقبل على القراءة بنهم، فقرأ بالعربية كما قرأ بالفرنسية حتى أصبح بعد ذلك كاتبا مشهورا، خارقا بذلك طبقة المثقفين المتخرجين من جهاد فاضل المدارس والجامعات التي لم تطأها قدمه يوما، ومتفوقا على الكثيرين منهم بذلك المخزون الشعبي الذي حصله من خلال معاشرته للفئات المهمشة التي تجد في حياة الليل ملاذها الحقيقي. لمحمد شكري كتب كثيرة، روايات أو قصص قصيرة أشهرها “الخبز الحافي” التي روى فيها بعضا من سيرته الذاتية، وكتبه كثيرا ما تصادر، ولكنه يعيد طباعتها سرا كما يتولى تصريفها بنفسه أحيانا، وهي كتب تلقى رواجا كبيرا، كما تلقى عناية خاصة لدى الأجانب الذين اطلعوا عليها مترجمة إلى لغاتهم لأنهم وجدوا فيها مدخلا إلى دراسة اجتماعية اقتصادية لمجتمعاتنا. وفي هذه الكتب يسمي محمد شكري الأشياء بأسمائها، فلا لف ولا دوران، ولكن دون التضحية بالمستلزمات الفنية للكتابة، وفي هذه المواجهة يحاوره الكاتب اللبناني جهاد فاضل.

قال محمد شكري عن سبب الاهتمام بأعماله: – سبب الاهتمام بـ “الخبز الحافي”، وبسواها من أعمالي هو أن السيرة الذاتية في العالم العربي محدودة جدا، كتبها طه حسين وأحمد أمين وعبدالمجيد بن جلون، وهو مغربي، ولكن هذه السير الذاتية الثلاث كتبت بشكل يطغى عليه الإنشاء، أو كتبت بأسلوب كلاسيكي، أما سيرتي الذاتية فهي أكثر من سيرة ذاتية، فيها نوع من الاعترافات، وهذا موجود طبعا في الأدب العربي ولكن كشذرات فقط، أما كعمل مكتمل بذاته فهو غير معروف، وربما أولى الكاتب الغربي هذه الأهمية لكتاباتي لأنه تعجب أن يكون هناك كاتب عربي استطاع أن يقول ما قاله عن نفسه وعن أسرته وعن مجتمعه.

وكم بلغت نسبة الصراحة والاعترافات فيما كتبت؟ هل أخفيت؟ هل خجلت من كتابة شيء حين فكرت للحظة أن تحجبه؟

– عندما كتبت “الخبز الحافي ” كنت متأثرا بالسير الذاتية الغربية، قرأت طبعا اعترافات جان جاك روسو، والكتابات الذاتية لسيمون دي بوفوار في “قوة الأشياء”، “مذكرات فتاة رصينة”، وقرأت لجيمس جويس “صورة الفنان في شبابه “، ولسومرست موم “عصارة الأيام”، ولكولن ولسن “رحلة نحو البداية”، وقرأت سواها، وهذه السير مكتوبة بجرأة، أنا حاولت أن أتحرر من “التابوهات” المحرمات المفتعلة، التي تشكل سلطة علي رقبة الكاتب، ومادام الأمر كذلك فالكاتب لا يستطيع أن يبدع، تأمل الفرق بين جان بول سارتر وتوفيق الحكيم، لو كان توفيق الحكيم متحررا من سلطة هذه التابوهات لأصبح من كبار المفكرين أو الفلاسفة، ولكنه عاش في مجتمع يفتقر إلى الديمقراطية، نحن نتحدث عن الديموقراطية ولكننا نعيش القمع ونمارسه.

هناك من يقول إننا نستورد تقنيات لا تلائم مجتمعاتنا لأن العالم العربي يتشكل من يوم لآخر، وفي نفس الوقت نحن نستورد البنيوية والأسلوبية والألسنية وكلها أشياء لا تلائم المرحلة التي نعيشها.

هل تشكل الكتابة صورة صادقة لحياتك؟

– بالنسبة لي نعم، معظم كتاباتي أستمدها من نوعية الحياة التي عشتها أو أعيشها، ولكن هذا لا يعني أن كل حادثة أعيشها أكتبها كما هي، لا بد من تراكم التجارب، أن تكون لدي تجارب لا تحصى، يلزم الكاتب ألف تجربة، لكي يكتب عن تجربة واحدة، أنا لا أعيش اللحظة ثم أكتبها في اليوم التالي، هذه ليست كتابة، لا بد من تراكم، لا بد من تخزين وتكثيف التجارب في عمل واحد، ولا بد من فنية واحدة يختارها الكاتب بعد أن يكون قد تمثل أساليب عدة، لا أستطيع أن أقول إنني متأثر بهذا الكاتب أو بذاك، ربما في المراحل الأولى التي كنت أحاول أن أكتب بها قلدت بعض الكتاب ولكني تخلصت بعد ذلك من التقليد واحتفظت بما يسمى الإعجاب، أنا أعجب بكتاب كثيرين، ولكني لا أقلد أحدا.

ملاحظات على الرواية

هل لك ملاحظات على الرواية العربية؟

– معظم الروائيين العرب وقعوا أسرى الالتزام، والتزامهم يتضمن الكثير من المباشرة، هم يعالجون موضوعاتهم بطريقة مباشرة طاغية، ولا يولون الأهمية للتقنيات الرفيعة، أنا أفضل التقنية على التطرق إلى الموضوع بصفة مباشرة، وهناك كلمات لا يمكن أن أستخدمها في قصة أو رواية، تقرأ رواية عربية فتجد فيها مثلا: “خصوصا وأن..”، أو “نظرا لأن..”، وهناك أيضا طريقة الحوار أو السرد، قلة هم كتاب القصة أو الروائيون الذين يجسدون اللحظات، هناك الكثير من السرد والوصف والتقرير، بينما الرواية المعروفة في تقنياتها المتقدمة عند الغربيين، هي غير ذلك تماما، أما الأساليب المستخدمة عندنا اليوم فقد أصبحت متجاوزة عندهم منذ زمن بعيد.

لم تصل الرواية العربية بعد إلى مستواها الرفيع، إنها ما زالت تجري وراء التقليد، ما زال الكاتب العربي يكتب وهو يحاول أن يقلد تقنية كاتب آخر.

وهل تعتقد أن علينا أن نصل يوما إلى رواية عربية كما يقول بعضهم؟

– طبعا، ولكني لا أستطيع أن أحدد تماما، ومنذ الآن، عروبة هذه الرواية، الرواية العربية ستصل يومان وبنفسها إلى مستواها العالي فتكون لها خصوصية عربية وتقنية عربية، لماذا لا، أنا أعتقد أن الشعر في العالم العربي هو من حيث التقنية والأساليب المتنوعة، متقدم على القصص والروايات رغم أنه ليس مقروءا بكيفية شعبية كما هي الرواية أو القصة، إن تقاليد الشعر أعمق من تقاليد الرواية عندنا.

وتقاليد الكتابة؟

– الكتابة متعة، ولولا الكتابة لشخت قبل الأوان، هي نوع من التسامي إذا شئنا، لأن العالم مملوء بالقذارة، وهي نوع من التسامي لكي ينظف الإنسان نفسه من هذه القذارة، ومن التكالب على الماديات. في الكتابة يستمد المرء الكثير من السمو لمواجهة ما لا يحتمل، الحقيقة أن الحياة لا تعاش إلا باحتمال مثير، لا تعاش بنفس الشهوة التي يريدها الإنسان، المنغصات كثيرة جدا في حياتنا، ولكي يتجاوز المرء هذه المنغصات فإن الكتابة هي أفضل نحرج، إنها نوع من الإنقاذ، بواسطتها ينقذ المرء نفسه من التلوث.

أحد الروائيين اللبنانيين، وهو توفيق يوسف عواد، كان يقول: إنه يعامل “الكلمة” كما يعامل المرأة، ويدللها كما يدلل المرأة، يعاملها برفق، يقلبها بين يديه، يختار هذه ويدع تلك، وكان كاتب لبناني آخر هو أمين نخلة يقول: إن على الكلمة أن تنزل منزلها فلا تكون قلقة في موضعها..

– ولماذا نعامل الكلمة كالمرأة؟ وهل المرأة تحتاج أصلا إلى تدليل الرجال؟ إن معاملة الرجل للمرأة بهذا النوع من التدليل واللطافة، تنقص من قيمتها الإنسانية، هناك نساء أعرفهن، لا يردن أن يعاملن بهذا التدليل لأن فيه إنقاصا للشخصية، ليست المرأة مكنسة من زجاج يخشى أن تنكسر إذا شطرنا بها الغبار.

أنا أختلف مع توفيق يوسف عواد في رأيه، أنا لا أعامل الكلمة ككائن ينبغي أن أربيه، لأن الكلمة ينبغي أن نتعامل معها على أنها شيء حي، أن نعطيه أفضل ما يستحق من التربية والعناية، ولكن التربية والعناية لا تعني التدليل، في التدليل ميوعة وخنوع، أنا أتعامل مع المرأة كما يتعامل المثال مع تمثاله، أتعامل مع الكلمة بنوع من النحت، أنحت الكلمة بكلمة أخرى، أحاول أن أكتب بأقل ما يمكن من الكلمات مع منتهى التفكير والروية، وفي أقل ما يمكن من الكلمات، على الكاتب أن يختزل خمس سنوات من التجربة في جملة واحدة، الكتابة هي نوع من تجميع عدة تجارب في تجربة واحدة.

هناك نوعان من الكتابة الروائية العربية الآن: كتابة روائية تهتم باللغة، بموجبات الأدب والفن، وكتابة أخرى خالية من كل موجبات الأدب والفن، كأن هذه الكتابة الأخيرة تعتمد منطق: اكتب كما تتكلم، أو كما تثرثر على الأصح.

– هذه الكتابة الأخيرة كتابة فقاعية.. كتابة تتخلق بسرعة ثم تنطفئ بسرعة، في رأي أنه لا يمكن أن نقول “كتابة” إلا ونذكر اللغة، أنا لا أتعامل مع اللغة كتفسير، ولا أخاف من القواعد العربية المضبوطة في القواميس والكتب النحوية، التعامل مع الكتابة كتفسير أو كتبليغ، هو نوع من الكتابة المرحلية، تنتهي بنفس السرعة التي نشأت بها، هناك مبدعون يظلون يبحثون عن صيغة لجملة واحدة مدة أيام، الكتابة بهذا النوع الفوتوغرافي تدغدغ المشاعر، لكنها لا تعمق لك الفكرة التي تبحث عنها.

ما يحكى وما يكتب

هناك قصص أعرف كيف أحكيها، ولكنى لا أعرف كيف أكتبها، ثمة قصص تحكى ولا تكتب، ثمة قصص أو روايات تكتب ولكني لا أعرف كيف أحكيها، لأنه ليس فيها طريقة حكي، حيث تكون ذهنية او تداعيات، هذا النوع من القصص يكتب ولا يحكى، وأنا عندي، عشرات القصص في ذهني أحكيها، ويقولون لي لماذا لا تكتبها، وأقول لهم إنني لم أجد بعد التقنية لكي أعبر عنها..

عندما تكتب هل تختار كلماتك بعناية؟ هل تختار هذه الكلمة وتدع تلك؟

– طبعا أختار هذه الكلمة وأدع تلك، وأنشغل كثيرا بالقواميس للدقة، لدقة التعبير عن شيء ما، مثلا أنا كنت منذ فترة أريد أن أعبر عن وردة ما ولم تكن في ذهني فعبرت عنها باللثينيات “عبارة عن لثينيات الزهرة”، بحثت في القاموس فوجدت أسماء النوريات وسواها، كل كلمة كنت أحاول ما أمكن أن أبحث عن أصلها الدقيق، اللغة العربية معروفة بهذه الدقة في التعبير، أقول شربت كأسا ولكن لا أقول شربت قدحا لأن القدح يكون فارغا ولا يصير كأسا إلا إذا ملئ حسب ما عرفت وسمعت. اللغة تتطلب الدقة والكتابة هي تصحيح مفاهيم الحياة، الكتابة لا تأتي هكذا للتسلية، إن فيها نوعا من التصحيح، إعطاء مفهوم نظيف لطيف للحياة.

ولكني لاحظت أنك تكتب بلغة هي وسط بين الفصحى والدارجة، لغة شبيهة بلغة ألف ليلة وليلة في القديم، وهي لغة وهب لها حظ البقاء في حين أن الذين كتبوا بلغة رفيعة وأنيقة كالهمذاني والحريري لم يصادفوا الرواج والنجاح المطلوبين.. فهل تعتقد أن الكتابة “الرسمية” الرفيعة المعاصرة ستتهافت مع الوقت لحساب اللغة الوسط أو اللغة السوقية؟

– دانتي كتب الكوميديا الإلهية بلغة إيطالية كانت تعتبر في زمانه دارجة، ولكنها أصبحت هي نفسها كلاسيكية، لغة ألف ليلة وليلة الآن أصبحت لغة كلاسيكية بالنسبة إلينا.

أنا حاولت ما أمكن في بعض الكتابات أن أكتب بلغة ثالثة، وهذا المصطلح أطلقه توفيق الحكيم على كتاباته، هذه اللغة لا هي فصيحة ولا هي دارجة، إنها لغة الوسط، ولذلك أقول لهذا السبب بعت في حوالي سنة ونصف عشرين ألف نسخة، وهو أمر نادر أن يبيع كاتب في المغرب عشرين ألف نسخة في سنة ونصف سنة، لماذا؟ لأن اللغة التي كتبت بها هي في مستوى إدراك الجميع، يقرأها المطرود من المدرسة، ماسح الأحذية، المرأة التي سبق لها أن درست سنتين أو ثلاث سنوات، يقرأها المهندس، والطبيب، إلى آخره.. فئات متعددة، أسلوب هذه الكتابة سهل، ولكن تجربته لا أقول عميقة، بل مهمة، لا تنس أن الحياة التي تبحث فيها هذه الكتابة هي الحياة المهمشة تلك الحياة التي كتبت عنها كانت حياة مشتركة، كلنا أولاد دور صغيرة، وأصحاب الفيلات أو أبناء الباشوات أو عملاء الاستعمار، كانوا قلة، اليوم هؤلاء الذين كانوا يسكنون في الحارات البائسة، أو في الدور الصغيرة، هم الذين أصبحوا مهندسين وأساتذة وأطباء ومحامين إلى آخره.

الفقر تغير

كتبي لم تكن غريبة عن مجتمعي، وتجارب الطفولة والمراهقة، تجارب الفقر، طغيان الأبوية في كتاباتي، أي الخلافات العائلية، كنا نعيشها بكيفية مشتركة، وما زلنا نعيشها، إنما الفقر تغير، لم يعد فقرا مدقعا كما كان، كان الناس يأكلون الأزبال، كنا نأكل قشور البطيخ وما إليها، اليوم صدقني إذا قلت لك إنه لم يعد أحد يطلب خبزا، بل أصبح السائل يحدد لك نوع الصدقة، فيقول لك أعطني درهما، أو درهمين، أو خمسين سنتا.. لم يعد الفقراء يدقون على الأبواب طلبا للخبز والأكل، هم يطلبون النقود. الفقر تغير.. ولكنه مازال موجودا، ما زال الجهل موجودا، البطالة كذلك، ولكن الناس يعيشون، كيف؟ الله أعلم.. كل له طريقته..

هل تجد فرقا بين الحب السائد في عصرنا اليوم والحب كما كان سائدا من قبل؟

– من قبل كان الحب يتم بشكل أكثر صفاء ونقاء من اليوم، كان المرء يهيئ نفسه لحب امرأة بشكل يختلف عما نراه اليوم، اليوم الحب ينشأ بسرعة كبيرة جدا، ينشأ في المقهى وفي السينما ثم يزول بسرعة، من قبل كان أكثر نقاوة، أكثر صفاء، كان ينشأ بين الطبيعة، تحت شجرة في الحقل، في الدروب الخفية، الحب تعرى كثيرا، ولم تعد علاقة الرجل بالمرأة علاقة حب، لم يعد لتلك العلاقة نوع من السحر، ذلك السحر اختفى، العلاقة تتم بشكل فقعي، إنها علاقة فقعية، تشتعل بسرعة وتنطفئ بسرعة، معظم العلاقات بين الرجل والمرأة تتم لمصلحة، هناك مثل إسباني تعريبه هو: أنا أخلق فيك مصلحتي وأنت تخلق في مصلحتك.

إن الكثير من حالات الزواج تتم لمصلحة، أجر يتزوج بأجر، وسلطة اجتماعية تتزوج بسلطة اجتماعية، لقب عائلي يتزوج بلقب عائلي، هناك حالات لا تحصى من الزواج قائمة على المصلحة الشخصية، المادية أقصد، وليس عن حب من غير مصلحة، في معظم الحالات، هناك طبعا حالات استثنائية، وهذه الحالات الاستثنائية هي ما يطلق عليها اليوم الحالات الرومانسية، عندما نرى شخصا يهتم بامرأة بشكل نقي نظيف نعتبره متخلفا أو رومانسيا.

هل أشقتك المرأة أكثر أم أسعدتك؟

– من حسن حظي أنني لما بلغت المرحلة التي كان لا بد لي فيها أن تكون لي علاقة، لم تكن المسألة معقدة جدا، أنا لم أشق مثلا في قصة حب.

قضية الحب أنا لم أنشغل بها كثيرا، بصراحة، ولكن عندي علاقات ودية، أو علاقات صداقة مع نساء، لكن بدون شقاء، بدون تعذيب، لا بالنسبة إليها ولا بالنسبة لي، مسرحية التعذيب انتهى أمرها، يريد المرء أو لا يريد، وهذا هو الموضوع، فلماذا التعذيب، تلك المتاهات، البحث بشقاء، تلك قضايا عفا عليها الزمن أو العصر، العلاقة إما أن تنتهي بحب وبسهولة، وإما ألا تأتي، لا أشقى، قلبي لم ينبض كثيرا تجاه امرأة بهذا النوع من التعذيب.

هذا الحب الذي ترسم صورته هو الحب الشائع اليوم، هو الحب العصري..

– الحب ضعف بشري يتناوب الرجل والمرأة، أنا أذهل عندما أرى شخصا يبكي أو ينتحر أو يتعذب أو يضرب عن الطعام من أجل قصة حب، هذا النوع من الحب أعتبره ضعفا، نوعا من الماسوشية ينبغي للإنسان أن ينتصر عليه..العلاقة بين الرجل والمرأة ينبغي أن تكون قائمة على صراحة، على قوة، وليس على ضعف.

هناك من يعقد صلة بين بودلير وبين أبي نواس، أنا الآن أعقد صلة بين بودلير وأبي نواس ومحمد شكري، أبونواس كان ابن مدينة، بغداد في عصر ازدهار وحضارة، بودلير ابن باريس في فترة صعودها ونهضتها المعاصرة، لم يكن الاثنان من الشخصيات الريفية، كانا من أبناء المدن، محمد شكري الآن هو ابن طنجة المدينة المعاصرة الواقعة على مفترق قارات والتي فيها من الحضارة الحديثة الكثير، في حين أن جذوره الريفية قد انقطعت وتلاشت.

– المقارنة صعبة جدا، صحيح أن أبا نواس ابن بغداد وبودلير ابن باريس، وأنا ابن طنجة، لكن لا أرى أن هناك علاقة منسجمة بين هذه الأسماء، مع الأسف إن الناس يتعاملون معي كظاهرة، وليس كقيمة أدبية، وهذا خطأ، فأنا لست بهلوانا وينسبون إلي كثيرا من الأشياء التفسخية والإباحية والخلاعية أنا بريء منها، أنا قد أعاشر فئة إباحية متفسخة منحلة أخلاقيا، ولكني في الواقع في حياتي الشخصية لا أمارس هذا النوع من الخلاعة ومن الإباحة، على الإطلاق، وإذا كان هناك أناس يبالغون في تفسير هذا النوع من الكتابة، فأنا بريء من اتهاماتهم.

لكن لا أرى هذا النوع من العلاقة بيني وبين أبي نواس وبودلير، كوني أصبت بهذه المشكلة أو تلك، فهذا لا يفسر على ضوء المقارنة مع حياة أبي نواس أو بودلير.

ولكن الصلة يمكن أن تنعقد في السيرة، وكذلك في الأدب.. بودلير تحدث عن جماليات القبح، أبونواس كذلك وأنت أيضا، من الناحية الأدبية والفنية، المقارنة ممكنة كما ترى..

– ولكني لا أريد أن أقول هذا الكلام عن تواضع زائف، أنا لست في مستوى أبي نواس ولا بودلير، هما أكبر مني بكثير، أنا قد أكون كبيرا بين الصغار، أو قد أكون صغيرا بين الكبار، ولكن أنا- قطعيا- لست بقيمة بودلير أو أبي نواس، حتى الكتابة جاءت مصادفة، أنا لم أخترها، بينما هم اختاروا أن يكونوا أدباء وشعراء، هم أكلوا حساءها وهم يقرأون ويكتبون، بالنسبة لي جاءت الكتابة نوعا من التحدي للخروج من فئة معينة كانت جاهلة، أردت أن أتعلم كيف أقرأ وأكتب، قرأت الجرائد والمجلات والكتابة جاءت مصادفة، جاءت أيضا كتحد، كنت أجلس في المقهى وكان يدخل شخص أنيق جدا اسمه محمد الصباح، فسألت شابا كان يجلس إلى جانبي، من هو ذلك الشخص قال لي إنه كاتب، اشتريت كتيباته الأربعة الصغيرة، قرأتها في ليلة واحدة، وفي الصبيحة قلت إذا كانت الكتابة بهذا الشكل، فأنا سأصبح كاتبا، وبدأت أكتب بعض الخربشات، وتعرفت على هذا الكاتب وكنت أعطيه بعض كتاباتي، فشجعني على المضي في الكتابة وأدركت بما أننا كنا نسكن في كوخ وأسرتي لم يكن لها اسم عائلي معروف، فقلت: إذن الكتابة امتياز، إذا صرت كاتبا..إذن الناس سيحترمونني.

الكتابة أنثروبولوجيا

الكتابة كانت نزوة، لكن فيما بعد أدركت أن الكتابة يمكن أن تكون قضية مرفوعة ضد المستغلين في المجتمع. لكن فيما بعد أدركت أن الكتابة ينبغي أن تستغل ضد المستغلين.

– ثم سرت في تيار “الالتزام”..

– طبعا أنا لا أدافع عن كل القضايا، أنا أعتبر أن الكتابة طبقية، أنا لا أستطيع أن أكتب مثل مارسيل بروست أو همنغواي أو مالرو أو سارتر، هؤلاء لهم شروطهم، أنا شرطي الاجتماعي أو قضيتي أو طبقتي تختلف عن شروطهم وقضيتهم وطبقتهم، أنا لا أستطيع أن أكتب كتابة مثل جويس مثلا أو فرجينيا وولف.

ولكن كتابتك وإن عبرت عن طموح طبقة، فهي تعبر أيضا عن نقلة جديدة للمجتمع المغربي النامي..

– طبعا، أي كتابة فيها نوع من الأنثروبولوجيا، دراسة الإنسان في مكان معين، في زمان معين، في حضارة معينة هي نوع من الأنثروبولوجيا، والكاتب عندما يكتب لا يكتب عن الإنسان فقط، بل يكتب عما يحيط بالإنسان من الأشياء، كيف يلبس، كيف يأكل، نوع من الأنثروبولوجيا.

وجها لوجه

منير بعلبكي وجهاد فاضل

نحن محتاجون لترجمة كل شيء لأنه ليس عندنا شيء
بنيت الموسوعة على الكلمات الإنجليزية لاختلاف المصطلحات العربية
يعتبر الأستاذ منير بعلبكي من كبار المترجمين العرب في هذا القرن فقد ترجم إلى العربية ما يزيد على مائة كتاب لنفر من كبار علماء وأدباء الغرب. وقد كلل جهده في هذا الإطار بوضع معجم المورد (إنجليزي- عربي)، الذي طوره عدة مرات عن طريق إغنائه بالمواد العلمية والفنية وبمجموعة من أعلام الأشخاص والأماكن حتى بات مرجعا عربيا وأجنبيا في آن. وقد ساهم منير بعلبكي عن طريق عضويته في مجمع اللغة العربية بمصر في تعريب الكثير من المفردات والمصطلحات الأجنبية التي أخذت طريقها فيما بعد إلى التداول دون أن يعرف أحد اسم واضعها. وتشكل خبرته في مسألة الترجمة بابا مستقلا في ذاته، يمكن بواسطته تقديم أجل الخدمات لحركة الترجمة من وإلى العربية. ولكن منير بعلبكي ليس مجرد مترجم أو ناقل، فقد وضع كتبا كثيرة لعل جهاد فاضل أشهرها وأجزلها فائدة في آن موسوعة المورد التي صدرت في بيروت في السنوات الأخيرة عن دار العلم للملايين. وهي موسوعة عامة تنتظم شتى المعارف الإنسانية وتعتبر وسطا بين الموسوعات العلمية المعروفة، فلا هي بالموجزة حتى الإخلال، ولا هي بالمطولة حتى الإملال. وقد اقتضت من مؤلفها عشر سنوات حتى اكتملت في عشرة مجلدات كبيرة. يحاوره الكاتب والصحفي اللبناني جهاد فاضل الذي أجرى العديد من الحوارات مع أعلام الأدب والفكر في العالم العربي. في هذا الحوار مع العربي، يروي منير بعلبكي حكايته مع الترجمة من البداية عندما نقل لأول مرة كتاب المؤرخ الدكتور فيليب حتي إلى العربية: (العرب تاريخ موجز)، كما يتحدث عن العمل الموسوعي العربي في وضعه الراهن وآفاقه المستقبلية وصولا إلى السؤال المؤرق والمقلق:

أين نحن من عصر التنوير؟.
– نشوء دار العلم للملايين في بيروت اقتضى مني أن أنصرف إلى الترجمة لكي أغذي منشورات الدار، فكنت كلما اطلعت على كتاب ذي شأن، حاولت أن أنشره إما مختصرا وإما كاملا، فكان من ذلك ذخيرة كبيرة في بادئ الأمر، إلى أن استقر رأيي على ألا أختصر بعد ذلك أي عمل من الأعمال التي أترجمها. فترجمت إلى العربية ما يزيد على مائة كتاب من كنوز الأدب العالمي من ديكنز إلى هيمنغواي إلى شتاينبك إلى كالدويل إلى فكتور هيغو “وقد ترجمت له ألفين وخمسمائة صفحة من القطع الكبير كاملة مع حواش وتعليقات وذلك بالاستعانة بالنسخة الإنجليزية المترجمة وبالأصل الفرنسي”.

كانت هذه الفترة مفيدة جدا لأنها كانت تغذي القارئ العربي بروافد الفكر العالمي. ولم يقتصر الأمر على كنوز القصص والروايات، بل ترجمت كتبا كثيرة منها على سبيل المثال: تاريخ الشعوب الإسلامية لـ “كارل بروكلمان” بالتعاون مع الدكتور نبيه أمين فارس، ومنها كتاب رواد الفكر الاشتراكي للبروفسور البريطاني “كول “، وبعض الكتب الإسلامية ومنها كتاب عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم “لمولانا محمد علي “. وكانت هذه الفترة من أغنى الفترات في حياتي.

وكنت أعاني من الترجمة ما يعانيه كل مترجم في ذلك الحين لأن المراجع والمعاجم كانت قليلة ونادرة. لم يكن هناك إلا بضعة معاجم منها: معجم الجامعة (المطبعة الأمريكية) العتيق الصادر سنة 1910 أو قبل ذلك، ومعجم أنطون إلياس (القاموس العصري) ثم ظهر معجم مظهر (قاموس النهضة) وسواها وكنت أستعين بها وأستفيد منها استفادة كبيرة، علما بأنها كانت تلبي طلباتي حينا وتعجز عنها حينا آخر، لأن كثيراً من الأشياء التي كنت أمر بها خلال عملي لم تكن منصوصا عليها في هذه المعاجم.

من المصطلح إلى القاموس

ماذا كنت تفعل إذن؟
– كنت أجتهد في وضع المصطلح للكلمة التي لا وجود لها في هذه المعاجم حتى إذا استقر رأيي على مصطلح معين أو صيغة معينة دونتها على هامش “العصري” أو “النهضة” أو على هامش أي من هذه المعاجم إلى أن اجتمع لدي على هذه الهوامش جمهرة من المصطلحات والكلمات الجديدة.

فجاء من قال من الإخوان لماذا لا تضع معجما يوفر على الناس بعض العناء أو كثيرا من العناء الذي عانيته أنت في عملك، فالناس يحتاجون إلى هذا. فاقتنعت بالأمر وبدأت العمل الذي انتهى بصدور قاموس المورد. وقد استغرق حوالي سبع سنوات كاملة قصدت به إلى أن أقدم للقارئ العربي أكبر كمية ممكنة من متن اللغة الإنجليزية، أي من الكلمات الأساسية في اللغة الإنجليزية، مضافا إليها المصطلحات التي لا يستغني عنها أي مشتغل في العلم، سواء أكان طبيبا أو مهندسا أو عالم فضاء أو مزارعا أو كيميائيا أو في أي فرع من فروع العلوم.

وقد نهجت في هذا القاموس نهجا جديدا تميز عن النهج الذي كان سائدا قبل صدوره، فجعلت نصب عيني أن أستقصي المعاني، بمعنى ألا أكتفي بمعنى أو معنيين أو ثلاثة للكلمة الواحدة، وإنما أحاول استقصاء جهدي وأكثر من الأمثلة على هذه المعاني، لأن ثمة أشياء بالإنجليزية مهما شرحتها بالعربية لا يمكن للقارئ أن يفهمها أو يفهم المراد منها إلا إذا أعطيته نموذجا أو مثلا بالإنجليزية، فعندها يزول لديه كل التباس وكل غموض. هذا فضلا عن حرصي على أن نضع وراء كل كلمة بالإنجليزية طريقة لفظها، وكان هذا شيئا جديدا في المعاجم.

بعد صدور المعجم، كيف خطر ببالكم الانصراف إلى وضع موسوعة مستقلة عنه؟.
– بعد صدور المعجم ونجاحه بدا لي أن أوسعه فأضيف إليه مواد علمية لم تكن موجودة فيه لأني لم أكن عندما أصدرت المعجم مقتنعا بأن القارئ قد يتحمل كل هذه الضخامة. المعجم صدر بألف ومائة صفحة وأن نجعل من المعجم ألفا وخمسمائة صفحة أو أكثر، فقد يضيق القارئ ذرعا بهذا الحمل، ويصعب عليه شراؤه. تجاريا لم يكن بإمكاني أن أتوسع أكثر مما توسعت في “المورد”، فاقتصاري في “المورد” على ما ورد فيه، كان بدوافع عملية اقتصادية وبملاحقة من زميلي المرحوم بهيج عثمان الذي كان يقول لي: لا تطوله خوفا من عدم إقبال القارئ عليه.

ولكن ظل في ذهني هاجس يحدوني دائما إلى أن أكمل ما كنت أرغب في وضعه، ولكني لم أضمنه في المورد. وبدأت العمل فوجدت أن ما اجتمع لدي من هذا يكاد يصبح موردا جديدا. وقد ذكر لي المجلد الذي تعاونا معه منذ البدء في تجليد “المورد”: إياك أن تزيد صفحة على “المورد” بعد الآن، لأني كنت أزيد كل سنة أشياء: مجموعة من الأمثلة الإنجليزية وما يقابلها عند العرب، زدت مرة مجموعة من الكلمات الإنجليزية ذات الأصل العربي. كنت كل سنة أحاول أن أضيف إلى أن ضاق الرجل ذرعا، فقال لي: “الماكينة” لم تعد تحمل ” المورد”.

فخطر ببالي أن أقوم بمشروع جديد رغم ضخامته هو موسوعة المورد، أضع فيها كل المعارف التي يتعين على المثقف العربي أن يلم بها دون الكلمات اللغوية المنصوص عليها في “المورد”. نقينا الكلمات العادية اللغوية، القسم اللغوي من “المورد”، وأبقينا على ما يسمى المعارف والمفاهيم العلمية التي تشتمل عليها دوائر المعارف في العالم.

وبدأت في العمل. بنيت “موسوعة المورد” على الكلمة الإنجليزية لثقتي بأن الكلمة الإنجليزيـة يعرفها الطالب ويعرفها المشتغل بالعلم، بينما لو بنيتها على الأبجدية العربية، فقد تكون هناك مصطلحات من وضع المجمع أو من وضع المشتغلين في مختلف هذه العلوم المتخصصة، لا يحيط بها القارئ. أعطيك مثلا: كلمة Metabolism وهي عملية في علم الأحياء تعني: بناء، الجسم وكيف يتمثل الأكل ويصبح جزءا من بناء الجسم. المجمع كان وضع لها كلمتين: الأيض والاستقلاب. لو أردت أنا أن أبني موسوعتي على الحرف العربي لكنت ذكرت “الأيض” بحرف الألف و”الاستقلاب” أيضا بحرف الألف، وشرحت بالعربية. الكلمة الإنجليزية بالإنجليزية والشروح في الموسوعة هي بالعربية. أحيانا يأتي الشرح في صفحة أو صفحة ونصف، أحيانا في عمود، أحيانا أخرى في نصف عمود أحيانا في أربعة أسطر: مدينة، عاصمة، اسم علم مغمور وإذا كان اسما عربيا فأتوسع فيه.

لماذا لجأت إلى هذه الطريقة؟ القارئ الذي يسمع بعد بكلمة “أيض” كيف سيفتح على كلمة “أيض “؟ أنت تبحث عن أمر سمعته، أو عن أمر مر بك. كيف ستفتح على كلمة “أيض”، وأنت لم ترها في أي مرجع ولم تسمعها من أحد؟ في حين أن كلمة Metabolism ستمر مع هذا القارئ يوميا في كتاب البيولوجيا. وهكذا..

إنما ظل في ذهني هاجس نصصت عليه في مقدمة الموسوعة هو أنني سأحاول إن أمد الله في العمر، وكان في العمر فسحة، أن أعرب الموسوعة، أي أن أقلبها فأجعلها عربية عربية، فتأتي كلمة “ميتـابوليزم” في “الأيض ” وفي “الاستقلاب ” وقد وفقنا الله إلى إصدار هذه الموسوعة فكانت موسوعة المورد العربية في مجلدين.

العمل المعجمي العربي

ما الذي حققنا برأيكم على صعيد العمل المعجمي العربي وما الذي يتعين علينا أن نحققه؟
– العمل المعجمي العربي اليوم يكاد يكون- مع احترامنا لكثير من المشتغلين به- وقفا على مجمع اللغة العربية بالقاهرة. هذا المجمع هو الذي ينهض بعبء استدراك النقص الموجود في العربية لجهة المصطلحات العلمية. المجمع تضع لجانه في كل سنة مجموعة مصطلحات في كل علم من العلوم، الأمر الذي أدى إلى أن يصبح لدى المجمع ذخيرة غنية لا تقدر بثمن.

المجمع له خبراء في مختلف العلوم ولجانه تعمل طوال العام بمقدار ما تستطيع. أحيانا تنجز أربعمائة مصطلح وأحيانا أخرى أكثر أو أقل، حسب الصعوبة والسهولة. وتضع تقريرا بما وضعته وتقدمه إلى المجمع لكي يعاد بحثه ودراسته في مؤتمر المجمع الذي يستمر أسبوعين في شهري فبراير. ومارس من كل عام.

هذه المصطلحات التي يقترحها خبراء المجمع تعرض على أعضاء المجمع، على أعضائه الرئيسيين، فيناقشونها ويقرون ما يقرون، ويعدلون ما يرونه محتاجا إلى تعديل.

وهكذا أصبح لدى المجمع في الواقع مجموعة كبيرة من المعاجم بعضها اكتمل وبعضها لم يكتمل. المجمع أصدر معجما كاملا اسمه معجم الجيولوجيا، وأصدر معجما آخر اسمه معجم الجغرافيا.

أما العلوم الأخرى التي لم تكتمل بعد فهي تصدر تباعا الواحد تلو الآخر. مثلا: المعجم الطبي، صدر منه حتى الآن جزءان، ولكن المصطلحات الطبية لم تنته بعد. كل سنة يحضرون خمسمائة مصطلح تقريبا وبعد سنوات قلائل سيكون لنا معجم طبي معتمد من قبل المجمع. وكلمة المجمع والحمد لله موضع التقدير والاحترام، أما ما كان يشاع عن المجمع من انغلاق فكري وتحجر فهذا غير صحيح. نحن في جلسات المجمع نقترح كلمات عربية فيقول الرئيس: “لا، فلنستعمل الكلمة الإنجليزية، فلنعربها”. ثمة انفتاح لم يكن حاصلا في السابق. فالمجمع ينهض في الواقع بهذا العبء، ويقدم ذخيرة لكل المشتغلين بالعلوم، سواء كانوا مؤلفين أو أساتذة أو واضعي معاجم.

نحن وعصر الترجمة

هل انتهى عصر الترجمة، سؤال يدور في الذهن العام لا انطلاقا من استكمالنا لحاجتنا إلى الترجمة بل شعورا من الناس بأن حركة الترجمة من الأجنبية إلى العربية قد توقفت عمليا؟
– قد يكون عصر الترجمة انتهى عندنا عمليا بمعنى أنه لم يعد هناك زخم في النتاج المترجم، ولكن هذا لا يعني أننا أصبحنا في غنى عن الترجمة. نحن لا نزال في حاجة ماسة إلى الترجمة في مختلف العلوم والفنون. وأنا أعتقد أنه لن يستقيم لنا أمر الترجمة إلا إذا قامت مؤسسة عربية مركزية مدعومة مثلا من جامعة الدول العربية تضع مناهج للترجمة لأن الترجمة الآن- كما كانت في عهدنا- ترجمة عشوائية. أترجم كتابا ثم أكتشف أن سواي يترجمه في الوقت نفسه، فتصدر ترجمتان لكتاب واحد وهذا هدر للوقت وللجهد.

على هذه المؤسسة العربية المركزية للترجمة أن تضع كشفا بالكتب التي ينبغي على الطالب والمثقف أن يعرفها، بكل أمهات الكتب الأدبية في العالم. ما هي أهم عشرين كتابا عند اليونان، عند الرومان، عند الفرس، عند البريطانيين، عند الصينيين، عند الروس، تقوم هذه المؤسسة بكشف، إحصاء، وتضع خطة لترجمة هذه الأعمال.

في الفيزياء. ما هي أمهات الكتب الفيزيائية التي لا يجوز أن يستغني عنها مثقف عربي. توضع أيضا بيانات فيها، ويعهد بنقلها إلى لجان مختصة يدفع لها ويسخى بالدفع.

بهذا وحده تصبح عندنا مكتبة عربية كاملة. مكتبتنا العربية تنقصها أشياء كثيرة في التأليف، وهذا أمر طبيعي، وتنقصها أشياء كثيرة في الترجمة.

وإلام نرد هذا التراجع في حركة الترجمة؟ هناك من يردها إلى ضآلة أجور المترجمين، وهناك من يردها إلى عدم وجود مدارس ألسن ولغات وما إلى ذلك. كيف نعيد الحياة إلى حركة الترجمة؟
– أن ندخلها أولا في مناهج التعليم. مثلا هناك في كليات الجامعة كلية الآداب. لماذا لا يكون هناك “كورس” أو أكثر من “كورس” متعلق بالترجمة، أو أن يكون هناك معهد خاص بالترجمة وتخريج المترجمين بصورة خاصة، إذا وضعنا هذا الكشف، أو هذا الجرد، على الأصح. نقوم بجرد للتراث العالمي في الأدب، في الفن، في الفيزياء، في الطب، في الفلسفة، في التاريخ، في الاقتصاد. هؤلاء الخريجون يمكن توزيعهم على فروع وحقول المعرفة المختلفة، كل يعمل وبإرشاد من هيئة عليا تسخو في الدفع، وتطبعها أيضا عند الحاجة على حسابها.

وهل تدخل الترجمة في باب الأعمال الإبداعية؟
– أنا عندما كنت أترجم كنت أعتبر الترجمة من أهم الأعمال، وكنت أعتز أيما اعتزاز عندما أنجز ترجمة كتاب. ولا تتصور كم كنت أعتز عندما كانت تصلني رسائل من أقطار عربية مختلفة: من المغرب، من الجزائر، من السعودية، من الخليج، يقول لي فيها أصحابها إنني أزودهم بما لا يستطيعون أن يطلعوا عليه باللغات الأجنبية. وكنت أكثر ما أنقله إلى العربية هو عن اللغة الإنجليزية.

الطالب العربي والمثقف العربي محتاج إلى أن يطلع على كل هذه الأمور. وقد كانت طريقتي في الترجمة أن أترجم بالحرف الواحد، لا بمعنى الترجمة الحرفية كما يسمونها، بل بمعنى ترجمة العمل كما هو، فلا ابتسار ولا اختصار.

المترجم بين الأمانة والتحريف

وكيف تصف طريقتك في الترجمة؟ ثمة طرائق شتى في الترجمة: الترجمة بتصرف، بأمانة، الترجمة الحرفية.
– الترجمة بتصرف لا أوافق عليها أبدا وقد ولى زمانها. ربما كان لها مبررات في وقت من الأوقات: كان المنفلوطي مثلا لا يعرف الفرنسية، فكان هناك من يلخص له القصة ويصوغها هو بالعربية، يتصرف كما يشاء.

والترجمة الحرفية كذلك أنا لست من الداعين إليها لأن لكل لغة منطقها البياني.

كانت طريقتي في الترجمة هي أن أقرأ العمل في أول الأمر كاملا، أحاول أن أستشف روحه وأتشبع من روحه حتى إذا انتهيت من هذه المرحلة بدأت في العمل، أقرأ الفقرة وليس الجملة. أقرأ الفقرة، أحيط بمعناها كاملا ثم أبدأ بالترجمة التي تؤدي المعنى كاملا دون التقيد بالحرفية التي يتقيد بها بعضهم عند الترجمة، لأن البيان العربي مختلف تمام الاختلاف عن البيان الفرنسي أو البيان الإنجليزي.

ورأس الحكمة في النجاح في الترجمة هو الأمانة.

والترجمة تقتضي شرطين: فهمك للغة الأجنبية التي أنت تنقل عنها، وتمكنك من العربية وأسرار العربية.

ليس كل من فهم الإنجليزية يستطيع أن يترجم، وليس كل من أتقن العربية، أو تخرج من الأزهر، يستطيع أن يترجم. الأمر يحتاج إلى ثقافة مزدوجة: ثقافة باللغتين العربية أولا وبالأجنبية ثانيا.

وهل تعتقد أن الترجمة هي ترجمة أساليب أيضا؟
– على المترجم أن ينقل الروح، عليك أن تنقل روح الأثر. مثلا: قصة مدينتين لتشـارلز ديكنز، أنا ترجمت هذه القصة، وترجمتها بلغة تتلاءم مع لغة ديكنز، فكنت أتقصد الجزالة في الترجمة. أما عندما كنت أترجم همنغواي فكنت أتقصد البساطة لأن همنغواي كاتب صحفي انقلب فيما بعد إلى كاتب روائي، وهو يكتب الرواية لعصرنا ولأهل عصرنا، ومعظم كلماته من الكلمات العامية، يضع لك كلمات دارجة في أمريكا لا تجدها في المعجم أحيانا.

الترجمة وعصر النهضة

هل هناك صلة بين الترجمة وعصور النهضة؟ الملاحظ أن كل نهضة تبدأ بالترجمة أو تصاحبها ترجمة؟
– ما تقوله حول أن كل عصر نهضة يبدأ بالترجمة هو صحيح تاريخيا، بدليل أن نهضة العرب في العصر العباسي بدأت أول ما بدأت بتعريب العلوم الهندية واليونانية بشكل خاص.

تبدأ النهضات عند الأمم بالترجمة ونحن اليوم في منبلج هذه النهضة التي نعيشها مضطرون لأن نترجم. أما ماذا نترجم، ففي اعتقادي أننا محتاجون لترجمة كل شيء لأنه ليست عندنا شيء ليس لدينا شيء وكل الترجمات التي صارت، باستثناء قلة قليلة قام بها نفر معروفون، مشهود لهم بالأمانة العلمية والخبرة، كلها لا تغني ولا تسمن ولا تؤدي المراد من عمل الترجمة. بعضها محرف، بعضها مختصر، بعضها مليء بالأخطاء. ويكفي أن أقول لك إن عمل الترجمة في الدنيا العربية كلها هو عمل فوضوي. لماذا؟ لأنه لا توجد منهجية في العمل، ولا كفاءات. لا تخضع الترجمة اليوم إلا لمزاج المترجم ومزاج الناشر. طبعا كثر خيرهم. كثر خيره الناشر الذي يفكر في ترجمة كتاب ونشر كتاب لأنه يؤدي خدمة، وكثر خيره المترجم الذي يتفق أن يعجب بكتاب. وهذه قصتي أنا مع الترجمة.

عندما ترجمت الكتب التي ترجمتها لم أترجمها إلا لأنني أعجبت بها. معنى ذلك أن عملنا في الترجمة مرتبط حتى الآن بمزاج: مزاج المترجم ومزاج الناشر. الناشر إذا أعجبه الكتاب المترجم ينشره، وإن لم يعجبه، أو خاف منه؟ لا ينشره.

وإلام نحن محتاجون في هذا القطاع بالذات؟
– نحن محتاجون، وبذلك نقرر حقيقة، إلى ترجمة حقيقية. ليس لدينا شيء حتى الآن اسمه ترجمة. إذا أخذت مثلا “إبريمانز لايبرري” في إنجلترا، تجد فيها مثلا ألف كتاب أو ألفين. تجد في هذه المكتبة كل التراث العالمي مترجما إلى اللغة الإنجليزية بكامله، وبمسئولية: من الأوديسة إلى الإلياذة، إلى الشهنامة، إلى المهابراتا، إلى سواها من أمهات الآثار العالمية. في الفكر السياسي يأخذون مثلا أفلاطون، الأمير لمكيافيللي، وهكذا. كل شيء مبرمج. الناشرون ليس لديهم هذه القدرة أو هذه الكفاءة، إنها مهمة ينبغي أن تقوم بها مؤسسات علمية وقومية في آن.

إذن يجب أن نقرر حقيقة راهنة وهي أنه ليس لدينا مكتبة ترجمة أولا. ينقصنا إذن كل شيء. إذا كان السؤال: ماذا يجب أن نترجم، فالجواب هو أننا يجب أن نترجم كل شيء. وكيف نترجم؟ بطريقة. نظامية. لا يجوز أن تظل العملية فوضى. يجب أن توضع مناهج. من يضع هذه المناهج؟ مجموعة ناشرين؟ لا مانع. مجموعة دول؟ دولة؟ مجمع علمي؟ هيئات ثقافية؟ المهم أن يكون هناك عمل مبرمج وألا يكون هناك تضارب بين الجهات إذا تعددت. ألا يكون هنا في بيروت ترجمة لديكنز وفي مصر تكون الترجمة نفسها تتم في وقت واحد. إذا نحن أخذنا مثلا جانب الأدب الإنجليزي لتغطيته، فليأخذ الآخرون جانب الأدب الألماني، أو الفرنسي، وهكذا.

التأليف أسهل

وأيهما أصعب: الترجمة أم التأليف؟
– أنا عانيت الترجمة وعانيت التأليف. موسوعة المورد مؤلفة، ولكنها أسهل بكثير من الترجمات التي ترجمتها. لماذا؟ لأنه أمامك خمسة أو ستة مراجع. أنت تؤلف كتابا في علم النفس، كتابا في التاريخ. أمامك كل المراجع، كل الحقائق تأخذ منها ما تشاء وتغفل ما تشاء. أنت أشبه شيء براكب السيارة السائر في شارع عريض. تأخذ يمينك، تأخذ شمالك، تتوقف، تبدل. أما في الترجمة فأنت كسائق “الترام” أمامك خط معين لا تستطيع أن تحيد عنه، إذا حدت عنه وقعت في الخطأ.

وطبعا يجب أن يكون هناك تخصص في الترجمة، فمترجم الفلسفة لا يجوز له أن يترجم كتابا في الكيمياء، هذا إذا كان ذلك بالإمكان، لأننا لم نصل بعد إلى هذه المرحلة المتقدمة.

نحن وعصر التنوير

أخيرا أستاذ منير: أين نحن من عصر التنوير؟
– الواقع أن التنوير لفظ استخدم أول ما استخدم في العصر السابق للثورة الفرنسية، أي في الخمسين سنة أو الستين سنة التي سبقت الثورة لفرنسية، عصر دائرة المعارف الموسوعية: مونتسكيو، جان جاك روسو، بوالو وسواهما ممن عملوا لإصدار الموسوعة الفرنسية. ومن هناك بدا عصر التنوير في العالم.

أما عصرنا “التنويري” نحن، فأنا لا أوافق على أنه هو عصر طه حسين ورفقائه. لقد بدأ هذا العصر التنويري مع رفاعة رافع الطهطاوي الذي وضع أول لبنة في التواصل الفكري بين العربية واللغات الأجنبية. والبعثات التي أرسلها محمد علي باشا إلى أوربا، كانت بداية التنوير. قد يكون طه حسين والعقاد ورفقاؤهما قمة التنوير، ولكنهم لم يكونوا البداية، ولن يكونوا النهاية. فنحن قد لا نرى الآن الآثار التي يمكن أن ندرجها تحت باب التنوير، ولكن الأيام سوف تكشف أنها كانت عوامل أساسية في التنوير.

وجها لوجه

منصور رحباني وجهاد فاضل

لقد نبعنا من محيطنا، من وجح الناس ومن أفراحهم
الفنان العظيم تلفحه رياح الفلسفة، ويعرف التاريخ ويعشق الما وراء
الفن والجمال مثل كهربة بسيطة فلماذا نكثفها؟
لم ننشئ وطنا كذبة.. لقد حاولنا التغيير بالكلمة الجميلة
كانت لنا شخصية فنية متميزة قبل أن تظهر فيروز على المسرح
تعتبر ظاهرة الرحبانية من أجمل وأنبل الظواهر الفنية والثقافية العربية في هذا العصر. فمن جبال لبنان خرج شقيقان تربيا معا وعملا معا، هما عاصي ومنصور الرحباني، وهبا الفن العربي واحدة من أروع الصفحات في تاريخه.

دور هذين الشقيقين العبقريين لم يقتصر، كما كان شائعا، على إمتاع الأذن والنفس العربية بالكلمات والألحان والموسيقى الجميلة التي ساهمت في نقل الأغنية العربية من حال إلى حال، بل تجاوز هذه المرتبة للمساهمة في صياغة الوجدان العربي والروح العربية، فمن الفن من أجل الفن، إلى الفن من أجل الحياة، ومن أجل الوطن، ومن أجل المستقبل، فالجمال لا يستطيع أن يبرر ذاته منفردا، بل ينبغي أن يقاس أيضا تبعا لمقتضيات العدالة والأخلاق.

ويشكل المسرح الرحباني على الخصوص قفزة نوعية في تاريخ المسرح الغنائي العربي.

وهو مسرح يحوي الموسيقى والشعر والحوارات، إضافة إلى تقنية خاصة لا تمتلكها الموسيقى وحدها أو الشعر وحده.

وهو قبل كل شيء مسرح هادف لا تغيب عنه الأفكار والرؤى المستقبلية.

عماد هذه الظاهرة فنانان كبيران رحل أحدهما إلى رحاب ربه، وبقي الآخر وهو منصور الرحباني.. يحاوره الكاتب الناقد المعروف جهاد فاضل حول تجربة الرحبانية في الموسيقى والفن.

منصور الرحباني موسيقي وشاعر قبل كل شيء. شارك أخاه المبدع عاصي رحلة الإبداع. فأي الأعمال الرحبانية هي لعاصى وأيها لمنصور؟ وكيف تسنى للإبداع أن يكون فرديا وجماعيا في آن؟ ولمن كلمات هذه الأغنية ولمن لحن تلك؟
– لا يعرف أحد. “ما حدا يسألنا هيك سؤال (كان عاصي يقول بلهجته اللبنانية) إذا بتريدوا هيدا من عمل الأخوين رحباني وبس “.

إذن دعنا من ذلك.. ولنرجع بالذاكرة إلى البداية.. كيف كانت.. ولعلها تحمل إجابة عن السؤال؟
– تسألني كيف بدأنا. لقد بدأنا هواة. كنت أنا وعاصي، ومنذ الصغر، هاوين للشعر.

كان عاصي يحرر وحده مجلة يكتبها ويخطها بنفسه من ألفها إلى يائها. وكانت تحتوي كل الأبواب والفنون المعروفة: شعر،. قصة، مسرحية متسلسلة، مقالات وغير ذلك. بعدها يخترع أسماء وهمية يوقع بها.

ولأنني كنت أصغر منه، فقد أصابني الحسد ونشأت على خطاه فأصدرت مجلة أخرى أسميتها “الأغاني”. هاتان المجلتان كنا نحررهما خلال أيام الأسبوع ثم ندور بهما يوم الأحد على الأصدقاء نقرؤهما ثم نبدأ صبيحة الاثنين إعداد العدد الجديد منهما.

هكذا بدأنا وعندما درسنا الموسيقى بعد ذلك أضيف اهتمام فني جديد إلى اهتمامنا الكتابي والأدبي. وقد درسنا الموسيقى دراسة جيدة على يد متخصصين بها قبل أن نلتحق بالكونسرفاتوار الوطني. ومع أننا لا نتحدث كثيرا عن ثقافتنا الموسيقية، إلا اننا مثقفان موسيقيا ثقافة عميقة جدا.

ثم اتجهنا إلى إحياء بعض الحفلات في ناد أدبي ثقافي يقع في بلدتنا انطلياس. إذ أتصور أن الإنسان يأتي مفردا مختلفا. لقد كانت هناك مؤثرات مختلفة أجنبية تأثرنا بها، لكننا عندما كتبنا جاء عطاؤنا مغايرا لما هو مألوف، جاء جديدا وهنا أتذكر كلمة شكسبير المشهورة: نكون أو لا نكون، تلك هي المسألة.

مقومات الفن الرحباني

ما أعطيناه كان جديدا. من هذا الجديد الذي أعطيناه تقصير مدة الأغنية. إنها ظاهرة بدأت من هنا، من انطلياس، ثم عمت العالم العربي. من الأغنية التي تستغرق ربع ساعة ونصف الساعة، إلى الأغنية التي لا تستغرق سوى دقيقتين ونصف أو ثلاث أو خمس دقائق.

أما الشعر الذي كتبناه فكان بدوره مختلفا. كانت كلمات الشعر السائد تتضمن الكثير من الترف: كالزهور، والبنفسج، والعواذل، والوصال. كان شعرا “حزينا” ومترفا. نحن أتينا بكلمات قاسية: كالصخر والشوك ويبدو أن الجمهور كان ينتظر ولادة شيء انقلابي جديد يحدث نقلة. أتينا بالفن الذي يجرح. لماذا؟ لا أدري. لقد نبعنا من محيطنا، من هؤلاء الناس الذين يعيشون حولنا، من وجوههم، من فرحهم، من عاداتهم من تقاليدهم.

وللثقافة بلا شك فضلها الكبير. ولكن الأساس قبل كل شيء هو الموهبة، ثم الثقافة الموسيقية والثقافة العامة.

لا يستطيع المرء أن يعطي عطاء عميقا، مثل بيتهوفن مثلا، إن لم يكن مثقفا ثقافة عامة. لا بد للفنان العظيم أن تلفحه رياح الفلسفة، أن يعرف التاريخ جيدا، أن يعشق الماورائية ويفتش عنها، لأنه خارج الإيمان لا يوجد شعر ولا موسيقى. إنها من الشروط، كما أرى.

وهناك أناس يكفرون في التلحين على أساس سطحي جدا ولذلك فإن عطاءهم يأتي سطحيا، ومن هنا، وعلى الطريقة التي ذكرتها لك، نشأت الفكرة الرحبانية.

الفن كهربة بسيطة

ذكرت أنكم قصرتم زمن الأغنية من نصف ساعة أو أكثر إلى دقائق معدودة.. ما هي أسبابكم الموجبة يا ترى؟ هناك من يقول إن العمل الفني القصير يتلاءم أكثر مع روح الفن ومع روح العصر.. ينزع الزوائد، يمنع الترهل، يركز على الجوهر ويحافظ على الشحنة الفنية والنفسية الحقيقية.
– أنت قلت. الفن والجمال بصورة عامة، هما عبارة عن كهربة بسيطة.. هذه الكهربة البسيطة ينبغي أن تؤدى بتكثيف، بتركيز. فإذا أنت أمنت ذلك في عبارات أو أعمال دقيقة موحية، فلماذا التطويل والشرح؟ دع نفسك في التكثيف. والتكثيف عملية أهم.. هنا الأساس. ثم إن أي شيء كان، مهما تضمن من المعاني والرؤى الجليلة، تستطيع أن تقوله في ثلاث دقائق.

الأغنية تستطيع أن تؤديها بنجاح في دقائق قليلة معدودة. إذا كان لديك أفكار ومعان أطول تستطيع أن تتجاوز الأغنية الواحدة أو القصيرة إلى المسرحية الغنائية.. أما في إطار الأغنية، فأنا أرى أن التكثيف أهم من أي شيء آخر. والمستمع يستطيع أن يصل إلى النشوة المطلوبة خلال هذه الدقائق القليلة.

فن الإبداع المشترك

يتحدث منصور الرحباني عن التجربة الرحبانية عادة بصيغة الجمع.. صنعنا. فعلنا. كان الذي قبلنا هو هذا فأصبح على أيدينا كذا. فهل تتحدث عن مجهود فردي لك أنت أم عن مجهود جماعي تم على أيديكما: أنت وعاصي؟ أين منصور في هذه التجربة وأين عاصي؟ هل هناك مجال للتمييز بين ما فعله كل منكما في إطار هذه التجربة؟ نحن نعرف أن الإبداع، عادة، جهد فردي، فكيف تماهى في فردين اثنين، في شخصين؟.
– المعاناة فردية، من البداية شعرنا أنا وعاصي أننا نستطيع أن نقوم بعمل مشترك. وعلى امتداد السنوات التي عملنا خلالها كنا فعلا مثالا لنكران الذات. تسأل عاصي: من أنجز هذه القطعة، يجيبك: منصور.. وتسأل منصور السؤال نفسه فيجيبك: عاصي. وسيمر وقت طويل قبل أن يأتي اثنان يكونان صديقين ولديهما تفاعل فكري ونفسي، ونكران الذات الذي كان عندنا. كل هذا مهم جدا، ولكنه يبقى قبل كل شيء للتاريخ.

أما كيف كنا نشتغل، فإليك الجواب: عاصي شاعر ولا أبالغ إذا قلت إنه كان من أهم شعراء العالم الدراماتيكيين. وقد يكون أهم شاعر أدرك ماهية الدراما في عصرنا هذا. ولم يكن عاصي شاعرا غنائيا وحسب، بل كان أيضا شاعرا دراماتيكيا.. كان يستطيع أن يؤلف ويلحن ويقوم بتوزيع أوركستراسيون وحده.

وأنا أيضا أؤلف وألحن وأقوم بتوزيع “الأوركستراسيون” وحدي. أحيانا نكون، مشتغلين بعمل ما، ثم نقوم بعملية نقد مشتركة لما أنجز أحدنا. نجلس جلسة مشتركة ونقوم بهذه العملية النقدية، ثم يصدر العمل باسم الأخوين رحباني.

أحيانا كثيرة كان هو الذي يؤلف وأنا الذي يلحن. أحيانا أخرى كنت أنا الذي أؤلف وهو الذي يلحن.

لم تكن قاعدة مطردة في العمل المسرحي بالذات. كانت فكرة المسرحية تلتمع في بال أحدنا فينقلها للآخر. أو أننا كنا نجلس فنطور الفكرة معا بدون كتابة. ورقة سيناريو. يبدأ أحدنا يكتب مقطعا منها أو يكتبها كلها، يعطيها للآخر فيكتب بدوره مقطعا. وهكذا نكتب معا. نتبادل كتابة المقاطع ثم يعود الآخر فيعيد كتابتها حتى تصبح المسرحية شبيهة بمعركة العلمين: لا يعرف أحد من عملها.. هل هذه لعاصي أم لمنصور..؟ عدة كتابات حتى تتم وفي شكلها الأخير حيث نجتمع ونتفق على صيغة نهائية لها.

المعاناة تكون في البداية فردية ثم ينتقل العمل أو مشروع العمل إلى الآخر فيأخذها ويضع معاناته هو بدوره.

هذه هي إرهاصات المسرحية الغنائية وتطورها ونموها حتى اكتمالها.

أقول لك شيئا آخر: هناك كثيرون يشكون أن يكون شكسبير أنجز وحده كتابة مسرحياته. هؤلاء يقولون إن شكسبير كان ممثلا، أما المسرحيات المنسوبة إليه فقد كتبها مع أعضاء فرقته المسرحية. هذه المسرحيات المنسوبة إليه إنما هي حصيلة عمل جماعي. وقد ذكر لي ذلك مرة الشاعر جورج شحادة والمعروف أن جورج شحادة من أكبر كتاب المسرح في هذا العصر. وكان يضيف: إذا اجتمع أفراد قلائل موهوبون طبعا، ومثقفون ثقافة عالية، وكتبوا معا وبسرعة، فإن الأسلوب الذي يكتبون به يخرج أسلوبا واحدا أو متشابها إلى حد بعيد.

الحضور الفيروزي

وما هي حكايتكم مع فيروز الضلع الثالث في مثلث الإبداع الرحباني؟
– عندما التقينا أنا وعاصي بفيروز كنا قد حصلنا على شهرة لا بأس بها. وكنا قد كونا لأنفسنا “ملمحا” خاصا، وكنا قد لفتنا أنظار الناس أو أسماعهم، لأننا كنا قد أنجزنا أعمالا جيدة جدا منها: زورق الحب، سمراء مها،، عدنا رأيناها، يا ساحر العينين.. وهي أعمال أثبتت لنا شخصية فنية متميزة، قبل أن تظهر فيروز على المسرح.

ولكن المشكلة كانت في المطربة التي يفترض أن تؤدي أو تغني هذه الأغنيات. بعض المطربين وجدوا أن طريقتنا طريقة غريبة. كانوا يقولون عنا إننا جبليون أو آتون من الجبال.. مع أننا كنا نغني: يا ساحر العينين يا حلمنا / تسأل في الحيين عن بيتنا.. كنا نقول يا ساحر العينين (كما تلفظ بالفصحى) فإذا بها على أفواه المطربين إذا أرادوا أن يغنوها: يا ساحر العينين (بكسر النون الأولى وعلى طريقة الكلمات بالعامية المصرية) لأنهم كانوا معتادين على مثل هذا الأداء. كانوا يظنون بصورة عامة أننا نغني غناء جبليا.

في مرحلة ما استعنا بشقيقتنا سلوى (زوجة الشاعر عبد الله الأخطل) وسميناها نجوى وغنت لنا تلك الأغنيات.

حتى التقينا بفيروز، جاءت فيروز متوجة.. إن الذي يأتي ولديه شيء يريد أن يقوله، تكون إطلالته مختلفة كما لو أن هناك تاجا غير منظور على رأسه.

فيروز تسلمها عاصي في البداية. كان عاصي يعمل في تلك الفترة عازف كمان وملحنا في الإذاعة اللبنانية. أنا كنت لا أزال يومها أعمل شرطيا، وإن كنت أساعد عاصي في عمله، نلحن معا.

وتعهد عاصي فيروز. قال له حليم الرومي: هذه الفتاة ذات صوت جميل، وكان حليم الرومي هو الذي أطلق عليها اسم فيروز. وأخذ عاصي يلحن لفيروز وسرعان ما انتزعت من الكورس في الإذاعة لأن صوتها كان جميلا جدا.

نحن – انسجاما مع طريقتنا وموقفنا – رأينا الأمور مختلفة. بيكاسو مثلا وجد في “المنظر” ما لم يجده سواه، نحن وجدنا في صوت فيروز شيئا آخر. تدخلنا في صياغته حتى أصبح له مذاق جديد.

فيروز بما لها من قوة شخصية وحضور على المسرح ومن صوت متفرد، ساعدنا كثيرا، أو أننا ساعدنا بعضنا بعضا. لا نعرف أيهما قبل الآخر: البيضة أم الدجاجة.

لقد نذرنا – عاصي وأنا – أنفسنا للأعمال الوطنية والقومية، لمعاني الحرية والثورة ضد الظلم. بدأنا ب “راجعون”، ثم كل قضايا فلسطين. لم تقل فيروز شيئا. لم تعترض ولكننا نحن الذين تعهدنا كل هذه الأفكار والقيم وحملناها لصوت فيروز، يقينا منا أن هذا الصوت قادر على الإيصال.

وقد أوصلت فيروز كل ذلك إلى كل العرب، وصارت المطربة / القضية. غنت الشعوب ولم تغن الأشخاص. غنت البلدان لا الأشخاص. وكان ذلك طبعا بناء على توجهنا ونهجنا. ولكن الناس تختصر فتقول: فيروز.

ونحن نعرف المكافأة. دائما الناس لا يرون سوى الشخص الواقف أمامهم على المسرح، لا يعرفون الذين خلف الستار. ونحن طبعا لا نغضب، إنما نسعد بوصول فننا إلى الناس.

الرحبانية والتراث

الأغنية الرحبانية كانت إلى حد بعيد مزيجا بين القديم والحديث. كيف نظرتم إلى تراث الأغنية العربية في عصورها الذهبية؟

– اهتممنا اهتماما بالغا بهذا التراث بالذات. قبلنا لم يكن هناك اهتمام جدي أو حقيقي به. اهتممنا بصورة خاصة بالموشحات الأندلسية، بدأنا “بالذي أسكر من عذب اللمى” و “لما بدا يتثنى لما. أجرينا لهذه الموشحات توزيعا جديدا، وإعادة “ترميم لما لبعضها إن صح التعبير. وعندما قدمنا هذه الموشحات لأول مرة على أحد مسارح دمشق، استمر الجمهور يصفق طويلا.

وعلى غرار هذه الموشحات قدمنا موشحات من تأليفنا حينا ومن تأليف سوانا حينا آخر. وهي كثيرة مثل: “ارجعي يا ألف ليلة” الكلمات لرفيق خوري والشعر للأخوين رحباني، وقدمنا “يا زائري في الضحى والحب قد سمحا” من تأليفنا وتلحيننا.

من ديوان الشعر الأندلسي أخذنا عدة موشحات. والموشح كما هو معروف تسمية للشعر وليس اللحن. أخذنا الكثير من هذا الديوان مثل: “هل تستعاد أيامنا في الخليج وليالينا”.

وأخذنا أيضا من ديوان الشعر العربي. أخذنا قصيدة عمودية على وزن واحد وقافية واحدة، لكن صنعنا ما يمكن تسميته القصيدة القصيرة أو “الميني قصيدة” تماشيا مع العصر. اختصرنا الوقت من نصف ساعة أو من ساعة إلى خمس أو ست دقائق. من هذه القصائد: “لملمت ذكر لقاء الأمس” و”أنا يا عصفورة الشجن ” وسواهما.

وفكرنا في لوحات غنائية كانت تسمى “سكتش” قصة تامة مثل “النهر العظيم لما و”راجعون” . صنعنا منها قصة تامة فيها حوار، وقد كانت تمهيدا لظهور المسرح الرحباني.

وهل كنتم تصدرون في موضوعاتكم الوطنية والقومية التي قدمتموها عن “رؤية” أو”فلسفة” معينة؟.
– قد لا نبالغ إذا قلنا إننا أول، أو من أوائل، من أوجد فكرة فلسطين الحديثة، سنة 1955 لم يكن العمل الفدائي قد نشأ بعد. في تلك السنة أنجزنا “راجعون” وكانت وجهة نظرنا أن على الفلسطنيين، قبل سواهم، أن يهتموا بفلسطين، على عكس وجهة النظر التي كانت شائعة، وموجزها أن قضية فلسطين قضية عربية أولا، ويبدو الآن أن وجهة نظرنا كانت صحيحة، وثورة الحجارة دليلنا على ذلك. قال لي مرة رئيس تحرير جريدة عربية: “أنتم الرحبانية أباء العمل الفدائي” “يدخل آلاف الأطفال، من ولدوا الليلة في الخارج، عادوا كالبحر من الخارج، عيده العيد برشاش، فمضى يتعبد ويقيم في أرض أبيه وأجداده “.

حول المسرح الرحباني

المسرح الرحباني نال حظا كبيرا من النجاح. واستقبل الجمهور مسرحكم بالكثير من التقدير.. ترى ماذا وراء نجاح الرحبانية في المسرح؟
– من البداية كنا نحب المسرح. أنا كنت أحب أن أكون “سيمفونيست ” لأن الدروس التي درسناها هي الدروس التي يتلقاها كل الموسيقيين في العالم. بالإضافة إلى موسيقانا الشرقية. درسنا أنا وعاصي 15 سنة موسيقى، منها ست سنوات شرقي والباقي غربي.

كنت أنوي كما قلت لك أن أكون “سيمفونيست “. تزوج عاصي فيروز. قال لي: فيروز هي أداة توصيلنا ونحن لدينا رسالة، فلماذا لا نهتم بالمسرح؟

وأخذ المسرح بعد ذلك كل وقتنا. ولم يكن عاصي مخطئا بهذا التوجه. فبواسطة المسرح خدمنا الفن العربي أكثر مما كان بإمكاننا أن نخدمه بواسطة السيمفونيات. وكان مسرحنا مسرحا وطنيا اجتماعيا هادفا. أنت تذكر الجدل الذي ثار قبل سنوات حول “وطن” الرحبانية. قالوا إن الرحبانية أنشأوا في مسرحهم وطنا.

ولكن البعض قالوا أيضا إن الرحبانية أنشأوا وطنا سريع العطب؟
– قالوا ذلك، وقال آخرون إننا “غشينا” الناس وأنشأنا وطنا / كذبة .. هذا غير صحيح. نحن لم نقدم شرائع أو قوانين. نحن زرعنا كلمات وقيما من نوع: “حلوة على الشباك هون.. وردة هونيك.. ناس يقاومون ويموتون على أرض وطن. زرعنا تلالا صخرية. بعنا الحكمة في المزاد. رجعنا الهارب بواسطة المهربين”.. لقد حاولنا أن نغير بواسطة الكلمات الجميلة والنبيلة في آن. كنا مخلصين إلى أبعد الحدود “ووطننا” قابل للتحقيق لأنه ينشد الحق والحقيقة، ولا أعتقد أن أحدا يمكن أن يجاهر بعدائهما.