ابن رشد وسنته العالمية.. رد الاعتبار ليقظة العقل العربي
في الغرب لم تبق جامعة من الجامعات خارج إطار احياء ذكرى ابن رشد، الذي توفي في العاشر من ديسمبر عام 1198 قد وصلت فلسفة أرسطو إلى الغربيين مشروحة أفضل شرح على يديه حتى لُقب في أدبياتهم بالشارح الأعظم، دون أن ينفوا عنه صفة الأصالة والابتكار في هذه الشروح. والمعروف أنه نشأ في أوربا ـ وبعد نقل مؤلفات ابن رشد إلى اللاتينية ـ تيار عُرف “بالرشدية اللاتينية” كان له نفوذ كبير على العقل الغربي استمر حتى بداية العصر الحديث.
أما الأكاديميون الإسرائيليون فلا يقل اهتمامهم بابن رشد عن اهتمام زملائهم في الغرب. فقد انشأوا في جامعة تل أبيب مركزا للدراسات الرشدية وعملوا على ترجمة أعمال ابن رشد إلى لغتهم. وهم يتعاملون معه على أنه يمت بصلة وثيقة إليهم وإلى حضارتهم. فهو أستاذ أعظم فلاسفتهم ابن ميمون صاحب كتاب “دلالة الحائرين”، الذي نهج فيه نفس نهج ابن رشد في التوفيق بين الحكمة والشريعة. ولاشك أن من أسباب اهتمامهم بابن رشد تلك الشائعات التي سرت في المجتمع الأندلسي عقب نكبته حول أصول أسرته. فقد زعم خصومه عقب نفي الخليفة الموحدي له إلى “أليسانة” بأنه من أصول يهودية “لأنه لا يعرف له نسب بين أسر الأندلس العربية”. وأليسانة هذه قرية تقع بجوار قرطبة كان كل سكانها يهوداً. فكأن الخليفة أراد بنفي ابن رشد إلى هذه القرية تأليب العامة عليه عن طريق تذكيرهم بأصوله واعتبار أن اشتغاله بالفلسفة ليس سوى دليل على ضعف إسلامه، مع أن والد هذا الخليفة، وهو أبو يعقوب يوسف بن عبدالمؤمن، هو الذي طلب من ابن رشد شرح مؤلفات أرسطو.
هل كان يهوديا؟
على أن تلك الشائعات عن يهودية أسرة ابن رشد لم تثبت يوما. فاذا لم تكن أسرته من أصول عربية، وهذا ما يرجحه بعض الباحثين، فقد تكون من أصول قوطية أو إسبانية.
ولا يعيب ابن رشد، وهو سليل أسرة تبوأ أفرادها أعلى المناصب في الأندلس، أن يكون من أصول يهودية أو غير يهودية مادام الله شرّفه بالإسلام.
على أن هذا الاهتمام العالمي الواسع بابن رشد لا يقابله اهتمام عربي أو إسلامي مماثل. فرغم الكثير مما كُتب عن ابن رشد في الإطار العربي والإسلامي، فإن هذا الذي كُتب ليس كافيا، كما أنه ليس دقيقا أحيانا كثيرة. فكثيراً ما زودت آراؤه وفُهمت فهماً ملتوياً. ومن قبيل ذلك ما ذكر بعض الباحثين من أنه يقول بحدوث العالم، مع انه يقول صراحةٍ بقدمه.
ويبدو أن اهتمام الأكاديميين الغربيين بابن رشد مرده إلى أنه يؤلف بنظرهم جسرا بين الحضارات كما يؤلف نهاية للعالم القديم وبداية للعالم الحديث الذي نعيش فيه اليوم. فقد مثلت شروحه لأرسطو جهدا واعيا لإعادة تأسيس العقلانية الأرسطية، كما أفردت فلسفته تيارا أسهم في عملية الإصلاح الديني وفي حركة التنوير بوجه عام. ومن الجدير بالذكر أن نفوذ ابن رشد لم يقتصر على الغرب الأوربي وحده، بل اتسع ليشمل الجامعات والاكاديميات الاوربية الشرقية في القرون الوسطى. وهذا ما جرى اكتشافه أخيرا بعد ان كانت الفكرة السائدة أن “الرشدية اللاتينية” لم تتجاوز أوربا الغربية.
على أن كل هذا النفوذ الواسع لابن رشد في الغرب لم يقابله نفوذ مماثل له في البيئة العربية الإسلامية. فقد نظرت إليه أوساط إسلامية متفرقة، سواء في زمانه بالأندلس، أو في زماننا اليوم، بريبة وتوجس. وليست محنته على يد الخليفة الموحدي سوى وجه من وجوه هذه الريبة. كما أن بعض الباحثين العرب المعاصرين يتعاملون معه كما لو أنه ظاهرة من ظواهر الانشقاق في الحضارة العربية. في حين أن ذروة هذه الحضارة القائمة على النظر العقلي والتوفيق بين العقل والنقل، أو بين الفلسفة والدين. ولا ننسى أن الغربيين ماداموا اتهموا الحضارة العربية بالعجز عن التفلسف والنظر العقلي. ولكن ها هو فيلسوف عربي يقف على قمة الفلسفة في العصر الوسيط يبلور عقلانية فريدة في عمقها وثرائها، يمتد تأثيرها إلى الغرب، ولكن يعجز الشرق مع الأسف عن الاستفادة منها.
هوية إسلامية خالصة
لابن رشد هوية إسلامية خاصة إلى جانب الهويات الكثيرة التي نالها خلال فتوحه لبلدان الغرب. فقيه اسلامي من قرطبة قرأ أرسطو قراءة خاصة على غرار ما يقرأ علماء ومفكرون عرب معاصرون فلاسفة الغرب وعلماءه ومفكريه لينتفعوا بعلمهم، وعلى غرار ما فعله علماء أوربا ومفكروها مع ابن رشد بالذات، انطلاقا من وجود “سوق” إنسانية حضارية واحدة، ومن كون التأثر والتأثير مبدأ مقرراً دراسياً منذ القدم.
وقد سلك ابن رشد بالذات في تعامله مع أرسطو مسلكاً يدل على أصالته. فصحيح أن ثقته بالمعلم الأول كانت ثقة كبيرة، إلا أنه لم ينبهر به على النحو الذي أفقده ثقته بنفسه. فكثيرا ما ذكر في شروحه: “أرسطو يقول كذا، أما نحن فنقول كذا”.. ثم إنه في كتاب شهير له عنوانه “فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال” يوفق بين أحكام الشريعة والفلسفة، بل يستمسك بالأصول الإسلامية ويتشبث بها بعد أن سرت عدوى التناقض بين الفلسفة والدين من المسيحيين إلى المسلمين في زمانه. فموقف ابن رشد، كما يقول بعض الباحثين، كان موقفا تصحيحيا واجه به هذا الأثر الطارئ على مجريات الفكر العقلي في الإسلام في الأندلس، وهو موقف يكشف عن الوجه الحقيقي للفلسفة الإسلامية في هذا الصدد.
على ان ابن رشد لم يكن الفيلسوف أو المفكر الوحيد الذي شغلته قضية التوفيق بين الشريعة والحكمة. فهذه القضية تؤلف أحد الثوابت في تاريخ العقل العربي. فها هم المعتزلة يفتحون هذا الباب منذ وقت مبكر. ثم يلحق بهم الأشاعرة ليوفقوا بين أهل النقل، والمعتزلة أهل العقل، وإذا اتينا إلى تيار الفلاسفة بالذات وجدنا الكندي، وهو رأس الفلاسفة الإسلاميين في المشرق، يقف الموقف نفسه. ثم يتبعه الفارابي وابن سينا بعد ذلك.
ويبدو أن عقلانية ابن رشد كانت من الأسباب العديدة التي أدت إلى نكبته. كان المجتمع الإسلامي في الأندلس يواجه خطراً على مصيره، فالممالك النصرانية تتحفز للانقضاض على الدول التي أقامها المسلمون في إسبانيا.
وما حضور المرابطين ثم الموحدين من بعدهم إلى الأندلس إلا استجابة لنداء أهلها. وقد وجدت فئات كثيرة من أهل الأندلس في نزعة التفلسف والتنظير سواء لدى ابن رشد أو لدى سواه، ما يعيق نزعة أخرى يفترض أن تسود هي نزعة تحصين الذات ضد هذه الأخطار والتمسك بالعقيدة، وإلى مثل هذا الصراع بين أصحاب النزعتين يقول المقري “إن كل العلوم لها عند أهل الأندلس حظ واعتناء إلا الفلسفة والتنجيم فإن لها حظا عظيما عند خواصهم، ولا يتظاهر بها خوف العامة، فإنه كلما قيل فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم، أطلقت عليه العامة اسم زنديق وقيّدت عليه أنفاسه، فإن زل في شبهة رجموه بالحجارة أو حرقوه قبل أن يصل أمره للسلطان أو يقتله السلطان تقربا لقلوب العامة. وكثيرا ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدت”.
ويتضح مما يقوله المقري أن العامة ضاقت ذرعاً بالفلسفة لأن الفلسفة يمكن أن تهدد العقيدة، أو أنها يمكن أن تؤدي إلى تفتت وفوضى في وقت ينبغي أن يعتصم المسلمون بالدين أمام الخطر الخارجي المحدق بهم والمتمثل بشبح الأسباني الساعي لاسترداد ما يزعم أنه حقه أو أرضه. في حين كان ابن رشد المنصرف إلى حياة عقلية وفكرية راقية يرى أن خط العقلانية الذي ينهجه إنما هو أداة لصالح الفكر الإسلامي والمجتمع الإسلامي وليس هدفاً بحد ذاته وليس على الخصوص، اداة تفتيت أو تمزيق.
نتاج الثراء الثقافي
ولكن ابن رشد منا نحن العرب وليس لاتينيا أو يهودياً أو منشقاً. انه نتاج الثراء الثقافي والفكري الذي كانت تنعم به الأندلس في زمانه، بل إنه نتاج روح التسامح التي سرت في تلك البلاد والتي لم تكن متاحة لو ضاق صدر الإسلام بها أصلاً.
نشأ ابن رشد في بيئة شكلت الثقافة العربية الإسلامية بنيتها العقلية الأساسية وفي بيت ورث الفقه كابراً عن كابر.
وقد ولي ثلاثة أجيال من أسرته وظيفة قاضي القضاة في مدينة قرطبة، إذ تتابع على هذا المنصب الكبير الجد والأب والحفيد وهو أبوالوليد محمد بن أحمد بن رشد الذي تربى على طريقة أسلافه، فحصل العلوم العربية والإسلامية، ثم درس الطب والحكمة. وقد عاصر فيلسوفا أندلسيا كبيرا هو ابن طفيل صاحب قصة “حي بن يقظان” الذي قدمه إلى الخليفة إبي يعقوب يوسف بن عبدالمؤمن الموحدي.
في ذلك اليوم أراد الخليفة أن يمتحن ابن رشد في مسألة من مسائل الفلسفة، فأظهر ابن رشد الحرج حتى طمأنه الأمير، وفتح أمامه باب الحديث فانطلق ابن رشد يُخرج كل ما عنده، فأعجب به الأمير ثم ما لبث أن عهد إليه بمهمة شرح كتب أرسطو، وهي المهمة التي نهض بها ابن رشد على أكمل وجه. إلا أنها جرت عليه المتاعب في الوقت نفسه. ذلك أن الخليفة الذي أتى بعد أبي يعقوب، وهو ابنه أبو يوسف، أمر باعتقاله ونفيه إلى قرية خاصة باليهود، وإحراق كتبه. كما أنه أصدر بيانا عاما نهى فيه عن قراءة كتب الفلسفة أو الاشتغال بها. ولكن محنة ابن رشد لم تدم طويلا. فقد عاد الخليفة بعد سنة وعفى عنه واستدعاه إلى مراكش. وفي ذلك ما يدل على أن محنة ابن رشد لم تكن لسبب ديني، وإن كانت لها نتائج كارثية على الفلسفة في العالم العربي الإسلامي، إذ لم تقم لها قائمة بعده. فقد كان قمة هذه الفلسفة كما كان شهابها الأخير.
بنظر بعض فقهاء الأندلس، كان ابن رشد يرمز إلى المثقف العامل على فتح أبواب الثقافة الإسلامية أمام ما يمكن تسميته بلغة زماننا بالغزو الثقافي الأجنبي. لقد شرّع أبواب الثقافة الإسلامية في قرطبة وأشبيليا وسواهما في حواضر الأندلس للثقافة الهلينية القديمة، المتمثلة على الخصوص بمنطق أرسطو وفلسفته. ولكن الواقع أن ابن رشد لم يكن لا الفيلسوف ولا الفقيه العربي الأول الذي سلك هذا الطريق، فقبله سلك هذا الطريق فلاسفة وفقهاء إسلاميون آخرون كان منهم أبو حامد الغزالي الذي حمل على الفلاسفة في كتابه “تهافت الفلاسفة” ولكن بأسلوب الفلاسفة وبالمنطق الأرسطي نفسه.
سيادة العقل
يرمز ابن رشد في تاريخ الفلسفة إلى معان كثيرة مختلفة منها الإيمان بسيادة العقل، والبحث عن الحقيقة، والنظر إلى الفلسفة على أنها نهج وليس مذهبا مكونا من مجموعة من الحقائق. فقد دعا إلى البحث عن الحقيقة أيا كان مصدرها، كما دعا إلى فتح النوافذ، وإلى تأويل النص عندما يتعارض مع العقل. ودعا أيضا إلى الالتزام بالعلم وقوانينه عندما نقد الغزالي الذي ذهب إلى عدم وجود علاقات ضرورية بين الأسباب ومسبباتها.
ولذلك يقال عادة إن أوربا تقدمت لأنها أخذت بأفكار ابن رشد في حين تخلف العالم العربي لأنه أخذ بآراء الغزالي اللا عقلانية.
والواقع أن ابن رشد لون من ألوان الحضارة العربية الإسلامية التي عرفت المحافظين كما عرفت المنفتحين. غرسة طبيعية في تراث يحض على النظر العقلي والتأمل في الخلق. فلا يتوهمن أحد أنه كان غريبا في هذه الحضارة أو منشقا أو مدسوسا. ولا يحاولن أحد أن يركز على المحنة التي ابتلي بها في أواخر حياته ليستنتج منها ما يشاء حول محنة العقل في بلاد المسلمين.
فهذه المحنة التي ابتلي بها قابلة للشرح والتفسير، وكان من الممكن أن تقع في أي مكان آخر في القرون الوسطى وأن ينال صاحبها أقصى العقاب. ولا ننسى أن تاريخ الفكر في أوربا في العصر الوسيط حافل بنكبات أمر وأدهى للفكر وأهله. فإذا كان الخليفة الموحدي قد اكتفى بنفي ابن رشد وبحرق كتبه، ثم عاد وعفى عنه بعد ذلك، فإن محاكم التفتيش الأوربية كانت تذيق أمثال ابن رشد الموت.
ولا ننسى أن الفلسفة كانت شائعة لسنوات طويلة قبل محنة ابن رشد، وأن الخليفة الموحدي أبا يعقوب يوسف هو الذي شجعه على شرح أرسطو وزوده بما لديه من كتب لأرسطو.
على أن الجوهري في كل ذلك هو ضرورة الحضور العربي في سنة ابن رشد العالمية. إن ابن رشد الذي يتحدث عنه الأوربيون كأساس من أسس التنوير عندهم هو جزء لا يتجزأ من حضارة ظلت تسطع على الغرب وعلى العالم كله أكثر من ألف سنة، هي الحضارة العربية الإسلامية.
لذلك، يتعين على العلماء والمفكرين والأكاديميين العرب أن يكونوا في طليعة الذين يفترض أن يسهموا في سنة ابن رشد، سواء بإحياء ذكراه في كلياتنا وجامعاتنا، أو في كليات الغرب وجامعاته.
إن منظمة الألكسو، أي الإدارة الثقافية التابعة لجامعة الدول العربية وكذلك الجامعات العربية، ووزارات الثقافة، مدعوة للاتصال بالجهات الثقافية الغربية الناشطة في هذا المجال، وذلك للتنسيق معها والمشاركة في احتفالاتها. ومن شأن كل ذلك ليس اعادة الاعتبار لابن رشد في الإطار العربي الإسلامي وحسب، بل تحسين صورتنا في العالم الخارجي. لقد دأب الإعلام المعادي على تصويرنا على أننا أمة عنف وسفك دماء في حين أن هذا العنف هو في بعض صوره ردة فعل لمظالم ألصقها الغرب بنا. ولكن تراثنا فتح صورة للعقل والعقلانية، بل هو تراث يحض على العقل والنظر العقلي وليس الفيلسوف الأندلسي أبو الوليد بن رشد الحفيد سوى ثمرة من ثمرات هذا التراث.