جهاد فاضل ونقولا زيادة
مي زيادة: الهوية والانتماء
كما شغلت الباحثين العرب لفترة طويل هوية الأدب الذي كتبه أدباؤنا باللغة الأجنبية, وهل هو عربي أم أجنبي, تشغلهم في الوقت الراهن هوية الأدباء الذين نزحوا من لبنان وسائر بلاد الشام إلى مصر في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين, ومنهم جرجي زيدان ويعقوب صروف وفارس نمر وفرح انطون وخليل مطران ومي زيادة, فهل هم (أدباء شوام) هاجروا إلى مصر, كما يقول الباحثون اللبنانيون والسوريون عادة, أم هم أدباء مصريون من أصول شامية, كما يقول الباحثون المصريون؟
السؤال حول هوية هؤلاء الأدباء يتجدد بين وقت وآخر. وهو يتخذ صورة الجدل الهادئ أو البارد حينا, والحار والعصبي حينا آخر. فاللبنانيون انطلاقا من قناعة ثابتة لديهم بأن بلدهم هو بلد الإشعاع الثقافي والحضاري, وأنه أشع في إطار جغرافيته المعروفة كما أشع في بلدان الانتشار, كما يسمونها, أو في المهاجر ومنها المهجر المصري, يرون أن كل الأدباء اللبنانيين الذين هاجروا من لبنان وإن قضوا حياتهم خارجه, حكمهم حكم اللبنانيين المقيمين, وأن الأدب الذي كتبوه في تلك البلدان, ولو باللغة الأجنبية, لا يمكن أن يُحسب إلا على الأدب اللبناني وحده.
الباحثون المصريون يصفون وجهة النظر هذه بالرومانسية, ويرون أنها لا تحيط بمسألة هوية هؤلاء الأدباء الإحاطة العلمية والموضوعية اللازمة. فالأدباء المصريون, وحتى المتحدرون منهم من أصول غير مصرية أو أجنبية, كمن ذكرنا آنفاً أو لم نذكر, كولي الدين يكن, وهو من أصول تركية وشركسية, هم أدباء مصريون صهرتهم مصر في بوتقتها فتحولوا مع الوقت إلى مصريين صميمين. وبلسان هؤلاء الباحثين قال مرة مدير تحرير (الأهرام) صلاح الدين حافظ في احتفال أقامه اللبنانيون في قرية بحشوش احياء لذكرى رئيس تحرير (الأهرام) الراحل داود بركات: (اسمحوا لنا أن ننازعكم في الراحل الكريم, فلنا فيه مثل ما لكم, بل ربما يكون ما لنا فيه أكثر مما لكم. فإذا كان لبنان قد منحه المولد والصبا والتعليم, فقد منحته مصر الشباب والرجولة والنضج والفكر).
وقد تجدد السؤال في السنوات الأخيرة حول هوية الآنسة مي زيادة التي اشتهرت كأديبة كما اشتهرت كظاهرة أدبية واجتماعية ألهمت, كما أوهمت, الكثير من رواد صالونها الأدبي الذي كان يُعقد مساء كل يوم ثلاثاء في منزلها المجاور لمبنى جريدة الأهرام القديم. فهل الأديبة الآنسة مي لبنانية أم مصرية؟
من أجل الفصل في هذا السؤال يحسن العودة بداية إلى خطوط أساسية في سيرة مي. كانت فلسطين أول أرض مس جسم مي (رحمها الله)ترابها. ولدت في مدينة الناصرة بفلسطين عام 1886 لأب لبناني كان يتعاطى مهنة التدريس هو الياس زخور زيادة, ولأم سورية الأصل فلسطينية المولد هي نزهة معمر. وقد عاشت مي في الناصرة ثلاثة عشر عاما انتقلت بعدها إلى لبنان في صيف 1899 للدراسة في مدرسة عينطورة ثم في مدرسة الراهبات اللعازاريات في بيروت لتعود بعد ذلك إلى الناصرة عام 1905. بعد ذلك بسنتين غادرت الأسرة فلسطين نهائيا إلى مصر. وقد كان من الطبيعي لمي, التي ستقضي عمرها لاحقا سجينة علاقات رومانسية وعذرية أن تتحسر لفراق مطارح صباها في فلسطين ولبنان على السواء, فتكتب, شعراً ونثراً, نصوصاً تترجم هذا التحسر, ومنها هذه الكلمات المملوءة بالحب والشوق لمدينة الناصرة: (إيه يا ناصرة! لن أنساكِ ما دمت حية. سأعيش دوماً تلك الهنيهات العذبة التي قضيتها في كنف منازلك الصامتة. سأحفظ في نفسي الفتية ذكرى هتافات قلبي وخلجات أعماقي).
وكما تحسرت لفراق الناصرة تحسرت لفراق لبنان, وتحمل قصيدة لها بالفرنسية من ديوانها (ازهار حلم) عاطفة صادقة إزاء لبنان وإزاء مصر في الوقت عينه. في هذه القصيدة وعنوانها (وداع لبنان), تتحدث مي عن لبنان فتصفه حيناً بالحلم, وحينا بالوطن: (خمودا يا حزني! ووداعاً يا وطني!) كما تصف مصر أيضا بأنها وطنها فتقول حرفياً: (إن مصر موطني تناديني بصوت عميق القرار). فمي إذن ممزقة بين ديار عربية مختلفة.
وإذا كانت قد عبرت عن هذا التمزق شعراً, فقد عبرت عنه نثراً أىضاً. فبواسطة النثر الذي يفترض أن يتضمن وعياً أكثر من الوعي الذي يتضمنه الشعر عادة, كتبت (ولدت في بلد, وأبي من بلد, وأمي من بلد, وسكني في بلد, وأشباح نفسي تنتقل من بلد إلى بلد, فلأي هذه البلدان انتمي, وعن أي هذه البلدان أدافع؟).
في مصر عاشت مي مع والديها بقية حياتها. وفي أرض مصر يثوي رفاتها ورفاة والديها. وإذا كانت مرحلتها الفلسطينية خمسة عشر عاما, ومرحلتها اللبنانية ستة أعوام, فقد عاشت في مصر منذ عام 1907 حتى رحيلها الحزين عام 1941 بصورة مستمرة. فمرحلتها المصرية تبلغ إذن 34 عاما وهبتها مصر خلالها جنسيتها كما وهبتها مكانتها الأدبية والثقافية التي استقرت لها في الأدب العربي المعاصر.
لاشك أن لمي علاقة خاصة بلبنان. والدها لبناني, وأقرباؤها مقيمون في شحتول إحدى قرى جبل لبنان. وفي لبنان درست وأول حب تفتح له قلبها كان للبناني من أقربائها. وإلى أحد أبناء عمومتها خطبت فترة. ومع لبناني مهاجر مثلها ارتبطت بصلة عاطفية لمدة عشرين عاما هو جبران خليل جبران الذي حلمت به حبيبا وزوجاً.
فمن الطبيعي أن يظل جرحها اللبناني نازفاً. ولكن من الطبيعي أيضاً أن يكون لها تفاعلها الحي والخصب مع بيئتها المصرية الاجتماعية والأدبية.
في هذه البيئة بالذات عاشت مي زمان شبابها ونضجها. وفي هذه البيئة نمت وأعطت وازدهرت. إنها إذن نبتة مباركة من مشتل, كثيرا ما ازدهر أبناؤه خارجه.
لم تكن القاهرة في الثلث الأول من القرن العشرين هي القاهرة التي نعرفها اليوم. فقد كان الطابع الكوسموبوليتي هو الطابع الغالب عليها كمدينة شبه أوربية. فإن سار المرء في شوارعها سمع لغات أجنبية كما لمس نفوذا للأجانب. وقد اختلطت مي بهذه البيئة القاهرية الأجنبية, كما اختلطت ببيئتها المصرية الصرفة. فهي وليدة مناخ ثقافي واجتماعي ملون بألوان محلية وألوان اجنبية. وعلينا ألا نستهين باللون المصري الوطني في تكوين مي. وقد لاحظت هي ذلك عندما كتبت (الهلال/فبراير 1930), إن أهم ما أثر في حياتها القرآن الكريم بفصاحته وبلاغته الرائعة, وقيام الحركة الوطنية في مصر. (من هنا كانت يقظتي الأدبية الصحيحة والخلق الجديد الذي امدتني به تلك الحركة بروحها).
التحقت مي في القاهرة بجامعتها العريقة, واقتبست من أوساطها الأدبية التي اتصلت بها فصاحة اللسان وجمال البيان. أهداها لطفي السيد نسخة من القرآن الكريم ومجموعة من كتب التراث. وإذا كان تعبيرها في البداية باللغة الأجنبية (لأن دروسها ومطالعاتها كانت بهذه اللغة), فقد تحولت لاحقاً, وبسبب (يقظة الدم العربي الجاري في عروقها), كما ذكرت مرة, وتحت تأثير حركة الأدب والفكر والثقافة في مصر, إلى أديبة مرموقة. ولاشك أنه كان لصلتها بأدباء زمانها, وبخاصة لهذا الصالون الأدبي الذي أنشأته, الأثر الكبير في نمو شخصيتها الأدبية, وفي هذه الهالة الرومانسية التي استقرت في الوجدان العربي.
عندما قدمت مي إلى مصر عام 1907 وهي في مقتبل العمر (21 سنة) كان زادها الثقافي محدوداً جداً وما كانت قد كتبته سواء في لبنان أو في فلسطين كان عبارة عن نصوص لا تحمل للأدب والشعر سوى دفء الشباب والوعد بخصوبة آتية. أما مصر فكانت حاضنتها الروحية والمعرفية التي نقلتها من حال إلى حال والتي صنعت منها الأديبة والظاهرة معاً. ولو أنها استقرت في لبنان ولم تغادره إلى مصر, لما كانت أكثر من أديبة محلية لا أكثر ولا أقل, مثلها في ذلك مثل جوليا طعمة دمشقية وسلمى صائغ ونجلا أبي اللمع وسواهن ممن لم يسمع بهن أحد خارج الإطار اللبناني. فمصر إذن هي التي فتحت أبواب التاريخ والمجد لهذه الأديبة التي عاشت في أكثر من دار من ديار العرب, ولكنها إلى دار مصر جديرة بأن تنسب, لا إلى أية دار أخرى, مع الإشارة إلى أن اللون اللبناني في شخصيتها كان جزءا جوهريا في نسيجها الذاتي والإنساني ومن سحرها وحلاوتها وفتونها. ولكن تبقى مصر هي التي رعتها وحضنتها ووهبتها صفحتها الجميلة في كتابنا الأدبي المعاصر, ودون مصر لم تكن ما كانت.
ترتبط مصر في ذاكرة مي, كما في سيرتها, بالخصب والحدب والعناية, في حين لا يرتبط لبنان بمثل هذه المعاني التي كانت له في قلبها في بدايات حياتها. فالمحنة الرهيبة التي تجرعتها في سنواتها الأخيرة, كانت محنة لبنانية في جوهرها, محنة سببها لها لبنانيون. فبعد وفاة والديها, ووفاة حلمها جبران خليل جبران, أصيبت مي باضطراب عقلي لامس حدود الجنون, دفعها إلى العزلة وإلى الاستنجاد بابن عم لها. ولكن ابن عمها هذا الذي انتزع منها وكالة عامة على أملاكها واستحصل على حكم حجر عليها, اصطحبها معه إلى لبنان حيث أودعها مستشفى العصفورية.
وفي لبنان هب نفر من أحراره للدفاع عنها, فأمكنهم انتزاعها من مستشفى المجانين لتمضي فترة نقاهة في ربوعه تعود بعدها إلى مصر لتموت فيها وتدفن إلى جوار والديها.
من أجل إدراك حجم المرارة التي اجتاحت نفس هذه الأديبة الحساسة في تلك الفترة العصيبة, نعود إلى بعض ما كتبته وهي في حمى مستشفى العصفورية تنكر أن تكون مستحقة للمصير المأساوي الذي آلت إليه. تقول مي: (أين لبنان الذي طويت ضلوعي على حبه, لبنان الذي تغنيت في الجرائد والكتب والمجلات ومن فوق المنابر بجماله, بجباله, ببنيه. لبنان الذي ما حلت به محنة إلا انهمر الدمع من عيني. لبنان هذا لم يوجد فيه واحد يبكي على محنتي التي انطوت على محن كثيرة)؟
وتضيف: (تلك هي مكافأة لبنان لي: إهمال مفجع وتغاضٍ مخجل عن أحط مؤامرة جاءت بي من مصر وألقتني مدة سبعة شهور في العصفورية أتفرج في النهار على مواكب النساء العاريات وأسمع ألفاظا ما كنت أعلم أنها موجودة, وأن في البشر من يتلفظ بها. سبعة أشهر قضيتها في العصفورية في لبنان على هذه الحال, وفي تلك الغمرة من الألم واليأس والعذاب, دون أن يهتز عرق بالشفقة أو لسان بالسؤال. ألا اسمحوا لي أن أقول بكل ألم وبكل أسف وبكل خجل أيضا, إني كنت أردد وأنا على تلك الحال, في كل يوم وفي كل ساعة: لعنة الله على لبنان).
والسؤال لايزال قائماً: هل يتبع المرء هوية البلد الذي يمنحه الولادة والصبا والتعليم, أم يتبع هوية البلد الذي يمنحه الشباب والنضج والفكر والثقافة والازدهار؟
هل المرء حيث يولد؟ أم حيث يوجد؟ حيث ينبت؟ أم حيث يثبت؟, كما كان يقول بديع الزماني الهمذاني.
أغلب الظن أن المرء حيث يوجد لا حيث يولد, حيث يثبت لا حيث ينبت. واستناداً إلى هذا المعيار الأقرب إلى العقل والمنطق من أي معيار آخر, تكون مي زيادة المولودة في الناصرة بفلسطين من أب لبناني وأم سورية الأصل, مصرية كأي مصري آخر, في مصر عاشت ووجدت وثبتت, ودون مصر لم تكن هذه العصفورة الشجية النضرة في بستان أدبنا وفي مخيلة الأدباء الكبار الذين ألهمتهم كما أوهمتهم.
شعلة الإبداع في كتابات “النابغة مي”
بقلم: سلمى الحفار الكزبري
تعارف معاصرو مي زيادة ـ وجلّهم من أعلام النهضة العربية الحديثة ـ على تلقيبها (بالنابغة مي) منذ ظهورها في القاهرة كاتبة مقالة محلية, وشاعرة باللغة الفرنسية, وخطيبة ساحرة عندما كُلفت إلقاء كلمة جبران خليل جبران مساء الاحتفال بشاعر القطرين خليل مطران الذي جرى في دار الأوبرا بتاريخ 24/4/1923.
حضر تلك الحفلة كبار الكتاب والشعراء العرب فوقفت على المنبر وألقت كلمة جبران التي أرسلها من الولايات المتحدة الأمريكية, ثم عقبت عليها بخطبة فاستحوذت على إعجاب الحاضرين بوقفتها الرصينة, ولفظها العربي الناصع, وإشراق بيانها, وصوتها العذب. لنقرأ ما كتبه عميد الأدب طه حسين في مذكراته عن مي في ذلك الاحتفال الكبير إذ كان يومئذ طالبا في الجامعة:
(..كان الشعراء ينشدون في الاحتفال الشعر, وكان الخطباء سيلقون فيه الخطب فاعتذر الفتى إلى أستاذه في الجامعة عن عدم حضور الدرس, وآثر شهود ذلك الحفل. لم يرض الفتى عن شيء مما سمع إلا صوتا واحدا سمعه فاضطرب له اضطرابا شديدا أرق له ليلته تلك. كان الصوت نحيلاً, وكان عذباً رائعاً, وكان لا يبلغ السمع حتى ينفذ منه في خفة إلى القلب فيفعل فيه الأفاعيل, وكان صوت الآنسة مي التي كانت تتحدث إلى جمهور من الناس للمرة الأولى).(1).
معروف أنها نشرت ديوان شعر لها باللغة الفرنسية عنوانه: (أزاهير حلم) عام 1911 لفت انتباه الصفوة من القراء في القاهرة حتى أن خليل مطران كتب لها عنه مقرظا شاعريتها, ووقعته باسم: (إيزيس كوبيا) منتحلة اسم الإلهة المصرية القديمة إيزيس, وكنيسة (كوبيا) اللاتينية التي تعني كنيتها هي: (زيادة), ولكن ذكاءها, وبعد نظرها حولا إنتاجها إلى اللغة العربية فقرأت القرآن الكريم, ودرست آداب اللغة وتاريخها والفلسفة في الجامعة المصرية لوجودها في بيئة ناهضة, وبين كبار كتاب اللغة العربية وشعرائها. جمعتهم مي في منزل والديها في ندوة أسبوعية عرفت باسم (ندوة الثلاثاء) التي استمرت عشرين عاما, واستقطبت صفوة الأدباء والشعراء أمثال أحمد لطفي السيد (أستاذ الجيل), وطه حسين, وعباس محمود العقاد, والشيخ مصطفى عبدالرازق, وولي الدين يكن الأديب والشاعر المرهف الذي ألهمته ندوتها الراقية هذين البيتين من قصيدة مطولة هما:
يا مي بين الأقلام والكتب
كالشمس بين الأقمار والشهب
أحييت عهد القريض والأدب
جددت للأدب رونق العرب
إن الذين أدمنوا على (ندوة الثلاثاء) كثيرون ومعروفون في الأوساط العلمية والثقافية والشعرية منهم خليل مطران, وأنطون الجميل, ويعقوب صروف, وأحمد شوقي الذي وصف ميا وحديثها العذب في ندوتها فأنشد هذه الأبيات:
أسائل نفسي عما سباني
أحُسن الخلق أم حسن البيان
رأيت تنافس الحسنين فيها
كأنهما لمية عاشقان
إذا نطقت صبا عقلي إليها
وإن بسمت إليّ صبا جناني
ومنهم كذلك مصطفى صادق الرافعي الذي أحبها وأوحت إليه روائعه: (أوراق الورد) و(السحاب الأحمر) و(رسائل الاحزان), ولكنه كان حبا من طرف واحد إذ كتب إليها عدة رسائل نشرتها في كتابي (مي زيادة وأعلام عصرها: رسائل مخطوطة لم تنشر 1912 ـ 1940) فيها من العتاب, ومن سوء التفاهم الشيء الكثير, حتى أنه استهل إحدى رسائله المؤرخة في 7/7/1923 بهذه الأبيات:
يا نسمة في ضفاف النيل سارية
مسرى التحية من ناء إلى نائي
يا ليت رياك مست قلب هاجرتي
فتشعريه بمعنى رقة الماء
ليست تحب سوى أن لا تحب فما
أعصى الدوا إن يكن من حبها دائي!
احتفظت مي بمركزها المرموق بين هؤلاء الرجال الكبار إذ كانت أصغرهم سناً, لشدة صونها لنفسها, واحترامها لذاتها, وكان طبيعيا أن يحبوها حباً أبوياً, ويعجبوا بنبوغها, ويتغزل بعضهم بمزاياها وثقافتها وبراعتها بإدارة الحديث, وبكل ما كانت تنشره من مقالات وأبحاث وخطب في أمهات الصحف المصرية والمجلات كالأهرام, والمحروسة, والزهور, والهلال ,والمقتطف, تنضح منها شعلة الإبداع.
من رسائل هؤلاء الأعلام الذين عاصروها إليها, ومقالاتهم: ومن الضيوف العرب والأجانب الذين كانوا يؤمون القاهرة, وقفنا على نبوغها في كل ما كتبت وفعلت, وأعطت من ذوب قلبها وعصارة ثقافتها الشاملة لإتقانها خمس لغات, واطلاعها على ثقافات الأمم القديمة والحديثة, إلى جانب تمكنها من العربية, وغيرتها عليها والدعوة إلى التحدث بها وإتقانها لأنها لغة جميلة, ثرية, من أقدم لغات العالم وأكثرها انتشاراً.
لقد كُرمت مي في مصر وفي لبنان وسوريا إبان زياراتها لها أحسن تكريم, عن جدارة بالتكريم, حيث برزت خطيبة بارعة ولكن إغراقها في الأحزان, بعد وفاة أبيها الياس زيادة عام 1928 صاحب المحروسة, وجبران خليل جبران عام 1931 الذي أحبته وتراسلا معا طوال عشرين عاما من غير أن يلتقيا, ثم وفاة أمها نزهة معمر عام 1932, ذلك الإغراق بالحزن أثر تأثيرا سيئا في صحتها النفسية وبدلا من أن تسلو وتعود إلى رواد ندوتها, وتستجيب لإلحاح أصدقائها عليها بالخروج من العزلة أمثال طه حسين وعباس محمود العقاد, مرضت لتكاثر ذويها على إزعاجها لمقاسمتها ما تملك, وكانت مأساتها المفجعة بتآمرهم عليها الذي أوصلها إلى مصح الأمراض العقلية في بيروت سنة 1936 وهي في كامل قواها العقلية! والدليل على ذلك إخراجها من ذلك المصح بفضل أصدقائها المنقذين منهم: مارون غانم الذي كان أول من اقتحم المصح بعد أن ضاعت منه, ولم يجدها في مصر ولا في أوربا ومنهم فيلسوف الفريكة أمين الريحاني, وفؤاد حبيش صاحب المكشوف وآل الجزائري. ومع أنها كانت إذ ذاك في حالة صحية متردية عالجوها في مستشفى الدكتور ربيز في بيروت, وأقاموا دعوى لإلغاء الحجر عليها فربحتها في أعقاب محاضرة من محاضراتها الرائعة ألقتها في قاعة (وست) بالجامعة الأمريكية ببيروت في ربيع عام 1938 بدعوة من جمعية (العروة الوثقى) التي كان من أعضائها الشباب المؤرخ الكبير الدكتور قسطنطين زريق, وثلة من شباب لبنان والعرب المثقفين النبلاء, أصحاب الشهامة الغيورين على حرمة الأدب, وكرامة الأديب.
أعود إلى (نبوغ) مي الذي اتفق على إطلاقه عليها أولئك الأعلام المعاصرون لها فلقد برهنت عليه بمؤلفاتها وأبحاثها, ومواقفها الجريئة في الدفاع عن حقوق الأمة المهضومة, بنسائها ورجالها, في أوائل القرن العشرين, وفي دعوتها إلى الأخذ بالعلم, ونبذ التخلف, والنهوض بالمجتمع العربي كله بغية تقدمه للحاق بركب الحضارة الغربية, مع التأكيد على اعتزازه بهويته وعروبته وتاريخه المجيد الغابر, وحضارته القديمة التي نورت الغرب بانتشارها فيه عبر الأندلس وصقلية يوم كان يغط في ليل القرون الوسيطة.إن القصائد التي وصلتنا عن (النابغة مي) بريش كبار شعراء النهضة, وأحاديث الكتاب الذين عرفوها, المنشورة في كتبهم القيمة أكثر بكثير مما تسمح به مساحة هذه المقالة, وأحسب أن أفضل ما أختم به هذا الحديث نقل البيتين اللذين استهل بهما الشاعر الكبير شفيق معلوف القصيدة التي ألقاها يوم حفلةتكريمها بدمشق عام 1922 التي دعت إليها الأندية الأدبية فيها:
بنت الجبال, ربيبة الهرم
هيهات يجهل إسمها حي
لم نلق سحرا سال من قلمٍ
الا هتفنا: هذه ميُّ
كانت مي في العشرينيات من هذا القرن قد بلغت أوج شهرتها في الوطن العربي, يتنسم القراء من مقالاتها السلاسة في التعبير, والنضج في التفكير, وأسلوباً جذاباً في معالجة الموضوعات التي طرقتها ولم تقلد به أحداً, وفي إحدى زياراتها إلى لبنان كرمتها (عصبة الأدب) في بيروت عام 1922 فحياها الخطباء والشعراء المقدرون موهبتها وعطاءها وفي طليعتهم فيليكس فارس وجميل بيهم وسلمى صائع وعفيفة صعب وعجلاء ابي اللمع من الأديبات الرائدات, والأديب راجي الراعي صاحب (قطرات الندى), والشاعر شبلي ملاط والشاعر ميشال أبو شهلا الذي أنشد قصيدة من أجود قصائده جاء فيها:
هي النبوغ وكرم الأدبا
يا شعر هذا بعض ما وجبا
مجد الحياة لأمة عرفت
قدر الأديب فنالت الأربا
مي وما مي سوى قبس
للعلم مزق نوره الحجبا
إني أحيي فيك نابغة
حسد الأعاجم عندها العربا!
في ختام تلك الحفلة وقفت مي وألقت خطبة عنوانها: (الحركتان الصالحتان) وقد عنت بهما: تحرير المرأة وتحرير الوطن, فكان لخطبتها صدى عميق علقت عليها الصحف والمجــلات, وكان أقل ما جاء فيها أن ميا تجـلت للجمهور مفكرة وأديبة مبدعة, كان لكلامها تأثير السحر في الألباب.
مي زيادة
(1)
بين سـنتـي 1921 و1924 كنــت طالبــا فــي دار المعلمين بالقدس. كان مدرسو اللغة العربية الذين يعلموننا الأدب العربي شديدي العناية بالشعر الجاهلي. وقد حملنا أحدهم على حفظ مختارات من المعلقات, وهو أمر كان له في نفسي أثر لغوي طيب. لكنني كنت أحس أن هذا الشعر هو شعر البادية. فامرؤ القيس وعنترة وطرفة بن العبد وزهير بن أبي سلمى كانوا يرسمون صورة حية للحياة هناك بحبها وغرامها وشجاعتها وحروبها وقتالها وحكمتها والعلاقات القبلية. كنت أشعر مع أنني كنت في عهد الصبــا المبكر نسبيا, فأنا مولود في 2 كانون الأول/ديسمبر سنة 1907, انني بحاجة إلى شعر من نوع آخر. ولم يحل شعراء العصر الأموي المشكلة لأنهم كانوا يعيشون في الحواضر لكنهم يحسون ويتصرفون, ومن ثم ينظمون الشعر بروح البادية. ولما وصلنا إلى العصر العباسي شعرت بأن اتساق النبض عندي أصبح يختلف عن ذي قبل. فالمتنبي, مع جزالته, كان ابن الحاضرة, والمعري كان شاعر المستقبل.
هذه المشكلة الأولى التي كانت تدور في خلدي. فأنا بحاجة إلى شيء جديد بعد. أما المشكلة الثانية التي كانت تشغلني فهي قضية الطائفة الأرثوذكسية في فلسطين وعلاقتها بالبطريركية الأورشليمية. فقد كانت هذه تسيطر على كل صغيرة وكبيرة من شئون الطائفة. فكل أسقف (مطران) أو أي مساعد له, وجميع أعضاء (أخوة القبر المقدس), وهي التي تزود البلاد بجميع رجال الدين أصحاب السطوة والسلطة, مقصورة على اليونان, ولم يكن يسمح لعربي أن ينضم إليها. والأوقاف كان يشرف عليها البطريرك اليوناني. ولم يكن يسمح للعرب من الرتب الكهنوتية سوى أن يكونوا رعاة (خوارنة) فقط. ولم يكن يسمح لاحد من هؤلاء أن يدخل سلك الكهنوت إلا بعد أن يتزوج, وبذلك يُحال بينه وبين الترقية في تلك الرتب. وحدث أنه في سنة 1923 أن قامت في البلاد حركة شعبية, بدأت في الناصرة, وهي بلد أسرتي, ثم انتشرت في أنحاء البلاد, تطالب بتعيين أساقفة (مطارنة) من العرب. وكنا نحن نعمل فيها جاهدين في سبيل الوصول إلى تلك الغاية.
وكانت ثمة مشكلة ثالثة وهي القومية العربية. ففـي دار المعلمين لقنت, كما لُقن غيري, هذه المبادئ, وكنت أنا معنيا بها عناية كبيرة.
في تلك السنوات بدأت تصلنا كتب في الأدب والشعر ذات روح جديدة. كان أولها, بالنسبة لي, كتاب من جمع الشيخ محيي الدين رضا اسمه (بلاغة العرب في القرن العشرين), كانت فيه قصائد ومقالات لجماعة المهجر. ثم أنهالت الكتب, وبعضها جاء بعيد سنة 1924, بينها (الغربال) لميخائيل نعيمة و(خليل الكافر) و(المجنون) لجبران خليل جبران و(الريحانيات) لأمين الريحاني ومجموعة (الرابطة القلمية) لكتاب وشعراء كانوا يعيشون في أمريكا الشمالية. وسوى هذه كثير. ومن أهمها (ملوك العرب) لابن الريحاني. وكتب ومقالات الآنسة مي.
هذه الكتب, التي كنت ألتهمها, استجابت للمشكلات التي كانت تشغلني. فالغربال أرشدني إلى سبيل تذوق الأدب وتفهمه بروح جديدة. فازداد نبضي, وأصبحت لدي مقاييس جديدة لفهم الأدب و(خليل الكافر) ملأت فراغ الثورة على رجال الدين اليونان. و(الريحانيات) فتحت قلبي للثورة على القديم, و(ملوك العرب) كان يحوي بذور القومية العربية.
وقرأت لمي (ظلمات وأشعة) و(ابتسامات ودموع) ومقالات كثيرة كانت تنشر هنا وهناك. لكن ما كتبته مي مما قرأته أنا لم يحل لي مشكلة. لذلك لم أحفل بها كثيرا.
على أنني بعد سنوات, وقد بدأت التدريس, عدت إلى كتب مي فقرأتها وقرأت جديدها. وعندئذ اكتشفت عالما جديدا, لم أكن قد تنبهت إليه من قبل.
عندها, على ما أذكر, دخلت يوما مخدعي, وطأطأت رأسي وقلت (شكرا لك يا الله أن خلقت لنا مي).
فما هو هذا العالم الذي اكتشفته يومها؟
(2)
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر قامت الإرساليات التبشيرية المتنوعة الاتجاهات بفتح مدارس في أنحاء فلسطين. ولم يكن يومها في البلد من المعلمين ما يكفي للقيام بأود هذه المدارس. فاخذت هذه المؤسسات باستقدام المعلمين من لبنان. فكانت المؤسسات الإنجيلية (البروتستانتية) تستقدم أولئك الذين تعلموا في مدارسها في لبنان ليعلموا في مدارسها, كما كانت المدارس الكاثوليكية توظف معلمين من الطوائف الكاثوليكية. و(مدرسة دار الأيتام السورية) (التي عرفت باسم مدرسة شنكر على اسم أول رئيس الماني لها) في القدس من المؤسسات التي جذبت عددا لا يستهان به من المعلمين اللبنانيين.
وكان في مدينة الناصرة مدارس للفريقين, وكل فريق كان يستحضر مدرسين لبنانيين. وكان من الذين وصلوا إلى تلك المدينة الصغيرة اثنان ـ أمين فارس من بحمدون وكان يعلم في المدرسة الإنجيلية, وإلياس زيادة من شحتول (كسروان) الذي علم في مدرسة كاثوليكية.
كان أمين فارس متزوجا, أما إلياس زيادة فكان عزبا. لذلك قدر له أن يتزوج من فتاة ناصرية اسمها نزهة هي بنت خليل معمر, والأسرة أرثوذكسية ذات مكانة مرموقة في البلدة. وفي الناصرة ولدت مي سنة 1886.
وقد سميت (ماري) تيمنا باسم السيدة العذراء. وقد ولد للأبوين طفل فيما بعد لكنه توفي صغيرا. وكانت وفاته سبب حزن شديد مقيم للأسرة ولمي خاصة. كان هذا بداءة أحزانها التي ستلقى منها الكثير.
قضت مي السنوات الاثنتي عشرة الأولى من حياتها في الناصرة, وعندها بعث بها أبواها إلى مدرسة الراهبات في عينطورة (الفتوح) بلبنان, حيث أمضت أربع سنوات في قسمها الداخلي, نقلت بعدها إلى المدرسة اللعازارية في بيروت. وبعد سنة واحدة هنا عادت إلى الناصرة سنة 1904.
ولم تطل إقامتها في الناصرة هذه المرة. فإن الياس زيادة لم يكن يتصور أن يقضي بقية حياته في التعليم وفي مثل هذا المكان الصغير ـ المحذوف!
لذلك انتقلت الأسرة إلى مصر (سنة 1907), فأقامت في الإسكندرية بعض الوقت أولا ثم انتقلت إلى القاهرة, التي اتخذتها مكان إقامة نهائيا لهذه الأسرة الثلاثية.
حرر الياس زيادة في (المحروسة) أولا, ثم انتقلت إليه ملكيتها (1909). وكانت هذه هي النشرة الأولى التي زودتها مي بمقالاتها. ولكن مع الوقت كتبت في الزهور (لانطون الجميل) والمقتطف (برئاسة يعقوب صروف) والهلال (جورجي ثم إميل وشكري زيدان) والأهرام (رئيس التحرير داود بركات) والرسالة (أحمد حسن الزيات) والسياسة الأسبوعية (محمد حسين هيكل) وسواها.
أود أن أتوقف هنا عند انتقال الأسرة إلى مصر واستقرارها في القاهرة. إنه, بالنسبة لأهل هذه الأيام, خبر عادي. فالناس يتنقلون من بلد إلى بلد وصقع إلى صقع وقارة إلى قارة. لكن هذه النقلة كانت في السنوات الأولى من القرن العشرين, وكانت نقلة من الناصرة ـ القرية الكبيرة ـ إلى القاهرة. صحيح أن هذا كان عبر مرور ببيروت ولعله كانت ثمة زيارة للقدس. لكن كل هذه كانت شيئا شبه عادي. أما القاهرة فقد كانت سنة 1912 مثلا مدينة.
ليسمح لي القراء أن أتوقف عند زيارتي الأولى للقاهرة سنة 1933, وكنت في مثل سن مي سنة 1912, لعل هذا يعطينا جميعا فرصة لتصور أثر هذه النقلة على مي.
هبطت مع صحبي القاهرة مساء. في طريقنا من محطة سكة الحديد (باب الحديد) إلى الفندق في شارع فؤاد الأول (يومها, شارع الاستقلال لاحقا) مررنا بشوارع عريضة تقوم إلى جوانبها بنايات شاهقة (ستة وسبعة أدوار) كلها تلمع في الليل بسبب المصابيح الكثيرة.
قضيت ثلاثة أسابيع في القاهرة, زرت مدينة, عرفت معنى المدينة, تمكنت صورة المدينة في ذهني. قصور ملكية وقصور أمراء فخمة المنظر والمظهر, وقصور لبعض الكبراء والأغنياء متقنة الأثاث والفراش (دار العروبة لأحمد زكي باشا), متحف كبير (جدا) للآثار المصرية القديمة (وكانت موجودات قبر توت عنخ آمون قد عرضت فيه) ودار الفنون (والآثار) الإسلامية ودار الكتب المصرية, ومستشفيات كبيرة ومسارح ودور ملاه. الأهرام تشير إليك بوجوب الزيارة وكنيسة ماري جرجس تدعوك إليها, ولكن الذي تراه حولك فتتوقف معجبا معجبا معجبا عشرات المساجد الإسلامية الجميلة من الجامع الأزرق (الصغير) إلى مدرسة السلطان حسن (الضخمة).
حوانيت لبيع الكتب من الحديث الحديث إلى القديم طبعا وحتى المخطوط. وسور الأزبكية ـ مكتبة الشارع الأولى في القاهرة.
البنايات الضخمة التي كانت تؤوي الصحف الكبيرة كالأهرام والمقطم وسواهما.
والأزهر, ابن الألف عام أو يكاد, حارس التراث ومدرب رجال الدين المسلمين لأكثر الشعوب الإسلامية.
هذا بعض ما رأيته أنا سنة 1933. فكيف بمي, وهي آتية من جو أضيق حتى من جوي, وقبلي بنحو عشرين سنة. وأهم من هذا أنها كانت قد أصبحت صاحبة قلم وفيها نفحة من ربة الشعر. فضلا عن ذلك فهي عاشت هذا الجو ـ عاشته سنوات طويلة ـ بقلبها وعقلها ووجدانها وضميرها وشعورها وسرورها وآلامها.
وفيه حركة بدأت سنة 1908 ونضجت سنة 1912 هي إنشاء الجامعة المصرية الأهلية, التي أصبح منبرها أحد منابر مي.
أتُرى لو بقيت مي في الناصرة ماذاكانت قد كتبت ـ وجدانيات, مرارة, أوجاعا, باقات حب, ورسائل روحية قطبها السيدة العذراء, وقد تحوي هذه الرسائل الخلاف بين الطائفة الأرثوذكسية والطوائف الكاثوليكية في أي من كنيستي البشارة هي الصحيحة, وأي هي المزورة.
انتقلت مي إلى القاهرة فانتقلت إلى عالم يثير من له أذنان للسماع, وكانت لمي أذنان تسمعان وعينان تريان.
لا يتسع المجال هنا لتعداد المناسبات التي اعتلت فيها مي المنابر فسحرت, ولسنا ننوي أن نحلل أعمالها الأدبية (ولو أننا سنتحدث عنها حديثا مقتضبا) لا تحليل مؤرخ للأدب أو ناقد له, فأنا لا من هؤلاء ولا من أولئك. لكنني سأوجز هنا حياة مي المنتجة اليقظة, على ما تبدو في مئات المقالات التي زودت بها الصحف, على نحو ما أشرنا. هذه امتدت إلى أواسط العقد الرابع من القرن العشرين.
ففي ظل أم رءوم وأب رءوف, وكلاهما عاقل يهمه أن تسير مي في الطريق الأدبي الذي خلقت له, وفي رعاية صداقة قلما حصل عليها مثلها في عصرها, شملت ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ أحمد لطفي السيد والشيخ مصطفى عبدالرازق ومصطفى صادق الرافعي وعباس محمود العقاد ويعقوب صروف وداود بركات وخليل مطران وأحمد شوقي وولي الدين يكن وشبلي الشميل وانطون الجميل.
هؤلاء وسواهم كانوا رواد (ندوة الثلاثاء) الأسبوعية التي كانت تعقد في بيت الياس زيادة, واستمرت حتى بعد وفاته بقليل. كانت مي سيدة هذه الندوات, كما شهد بذلك الذين كتبوا عنها (وهم كثر لكنني قرأت البعض مما دونوا), وزنبركها, وكانت تثار فيها القضايا جميعها, الفكرية والأدبية والعلمية والشعرية والسياسية, ولكل دلو يدلي به بما عنده شارحا باسطا مدافعا متهما, وكانت هذه الشئون تديرها مي بقدرة ولطف, بحيث كان كل من الحاضرين يحس أنه استفاد وأفاد.
تقول الأديبة سلمى الحفار الكزبري في كتاب المؤلفات الكاملة لمي زيادة (من جمعها وتحقيقها وتقديم ممتاز لها) ظلت مي عزبة مع أن عددا كبيرا من الرجال قد خطب ودها وتمناها زوجا له, ولكن قلبها لم يخفق ولم يمل إلا لجبران خليل جبران, فكانت بينهما مراسلة رائعة امتدت من عام 1912 حتى قبل وفاة جبران بأسبوعين عام 1931 وأصبحت اليوم بين أيدي القراء في كتاب (الشعلة الزرقاء) وهو يحتوي على رسائل جبران المخطوطة إلى مي, من منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي بدمشق 1979 تقديم وتحقيق سلمى الحفار الكزبري والدكتور سهيل بديع بشروئي فاثبتت للباحثين أن الصلة بين هذين القلمين النابغين تدرجت من الإعجاب المتبادل إلى الصداقة الفكرية قبل أن تتحول إلى حب ضبابي ذي نزعة صوفية, و(شاء القدر ألا يلتقيا إلا على الورق).
(المؤلفات الكاملة لمي زيادة, منشورات نوفل بيروت 1982, الجزء الأول ص 13 ـ 14).
صحيح أن كثيرين أحبوا مي: البعض أحب وأشار في كتاباته, والبعض ضمن ذلك في مؤلف له, والبعض كتم الحب وعض على الأصابع, والبعض أدعى حب مي له. رحم الله الجميع!
لكن هذا الجو الذي عاشته مي وفيه كثير من السعادة, التي كان يشوبها حزن وأسى شديدان, لم تدم. ففي سنة 1929 توفي أبوها وفي 1931 مات جبران ولحقت الأم بهما في 1932. وهنا هربت السعادة من البيت وخيم عليه الأسى المرير والحزن العميق, ترفرف عليهما الوحدة القاتلة.
رغبت مي في الانتقال إلى لبنان لعلها تجد هناك بعض الراحة. ولكن عند وصولها بيروت (1931) وجدت نفسها متهمة بالجنون وسيقت إلى (العصفورية) (وهو مستشفى المجانين) ولم تنقل منه إلى مستشفى الجامعة الأمريكية ثم مستشفى ربيز إلا بعد جهد كبير بذله أصدقاؤها الذين تمكنوا من نفي التهمة عنها. لكن بعض أقربائها في لبنان نجحوا في إصدار حجر عليها في بيروت (1937) ورفعوا دعوى حجر مماثلة في المجلس الحسبي في مصر في الوقت ذاته.
عادت إلى مصر, ونجح محامون وأصدقاء بعد جهود مضنية, في رفع الحجرين عنها, لكنها كانت مضناة متعبة مهيضة الجناح معتلة الصحة. وتوفيت هناك سنة 1941. (فصّلت الأديبة سلمى الحفار الكزبري أخبار السنوات الأخيرة من حياة مي في كتابها مي زيادة أو مأساة النبوغ, الجزء الثاني, من منشورات نوفل في بيـروت 1987, ص 161 ـ 442, فليرجع إليه).
(3)
العالم الجديد الذي اكتنفته بعد عناء كان عالم مي المفكرة الكاتبة البارعة. وقد كتبت عنها أخيرا المقطوعة التالية, انقلها هنا إذ إنني أراني قد انصفت الأديبة المفكرة مي بعض الإنصاف:
(كانت مي تُعين موقع طريدتها, اظبيا كانت أم طائرا أم زهرة أم فكرة أم قضية أم مشكلة أم حبا, ثم تلقي عليها شبكتها وتجذبها إليها. فإذا وقعت بين أيديها حادثتها وداعبتها وغنجتها وشاكستها وحاورتها وناقشتها. حتى إذا اطمأنت إلى أنها عرفت أسرارها وكشفت عن خبيئتها وأدركت كنهها, عمدت إلى قلم سداه الصدق ولحمته الإدراك ومداد صيغ من العطف, فخطت على طرس الفؤاد والعقل ما تراه حول هذه الطريدة من حب وفهم لأعماق أعماقها, بأسلوب سلس طلي واضح المبنى والمعنى. فأخرجت بذلك وصفا للوضع أو حلا للقضية. وقد يكون في أسلوبها نعومة الأسى أو عاصفـــة الثــورة أو حمـم البراكين, ومع ذلك تتضح لك أيها القارئ كل خلجة وكل نبرة وكل رأي).
أما الطرائد التي تصيدتها مي في حياتها فتشمل كل قضايا الإنسانية جمعاء ومشكلات العالم العربي بأكملها وحرية المرأة العربية واستعبادها. وفي (المؤلفات الكاملة) المذكورة آنفا نحو 160 قضية عالجتها. (وقد أضيف إليها فيما بعد قضايا كثيرة, اكتشفت بعد نشر الكتاب).
هذا فضلا عن رسائلها إلى جبران (التي لم يعثر عليها حتى الآن). هذه موجودة في كتبها: (بين الجزر والمد), و(المساواة) و(غاية الحياة) و(كلمات وإشارات)ـ1, و(كلمات وإشارات) ـ2, و(ظلمات وأشعة) و(الصحائف), و(سوانح فتاة). إلى هذا فلمي ثلاث تراجم لثلاث سيدات هن: (باحثة البادية), و(وردة اليازجي) و(عائشة تيمور). في هذه الكتب أثبتت مي أنها كانت بحاثة أصيلة, تحيط بموضوعها تنقيبا وتقصيا ومقاربة ومقارنة ومقابلة قبل أن تخضع مادتها لأسلوبها الفذ من حيث دقته ونصاعته ووضوحه.
فضلا عن ذلك فمي نقلت إلى العربية ثلاثة كتب: الحب في العذاب عن الإنجليزية (The Refugees, A.C. Doyce), وابتسامات ودموع) عن الألمانية (Deutoche Liebe – Frederich Max Muller), و(رجوع الموجة) عن الفرنسية (Le Retour du Flot – Brada)
وكان في الواقع أول مانشر لمي ديوان شعر بالفرنسية هو (زهرات حلم) (Fleurs de Reve) وذلك سنة 1911 في القاهرة, وباسم مستعار هو إيزيس كوبيا. واستمرت مي تكتب وتنظم بالفرنسية, لكن كتابتها بالعربية هي التي غلبت عليها إلى درجة بعيدة.
وبعد فما الذي يمكن أن يقال عن دور مي في النهضة الأدبية في النصف الأول من القرن العشرين, كانت مي متحررة ثائرة: مع الفقير والضعيف والعبد والمقهور وأسير قيود المجتمع, وخاصة مع المرأة التي لم تكن لها حرية إلا فيما ندر. وكانت ثائرة: ضد الظلم والعدوان والطغيان والرجعية والجهل والتجهيل.
دعت إلى نفض غبار الأجيال عن مجتمعنا وطالبت للناس, أفرادا وجماعات, بالحرية. ولعل كتابها (المساواة) من خير الأدلة على هذا الموقف. والمهم أنها لم تدعُ إلى الحرية شعرا فقط, بل خططت لذلك تخطيطا فيه علم ومعرفة.
كانت مي نابغة, وقد وضعت نبوغها وقدرتها في خدمة الناس أجمعين.
فلتقرأ مي من جديد لندرك دورها وأثرها.
صالون مي
بقلم: الدكتورة آنتي زيغلر
نشأ صالون مي خلال فترة تحول اجتماعي جذري شامل في كل مناحي الحياة. ذلك أن التصورات القديمة للانتماء السياسي انهارت, وتم تعويضها بمفاهيم وطنية جديدة. فالدعوة إلى الاستقلال السياسي, سواء عن النظام العثماني أو الاحتلال البريطاني, ارتبطت لدى مجموعة من المصلحين والمثقفين الذين تخرجوا من المؤسسات التعليمية العلمانية الجديدة, أو من الجامعات الأوربية, بالرغبة الملحة في الحرية الفردية والمساواة. وكانت المطالبة بتحرير المرأة من ضمن مطالبهم الرئيسية.
وقد أصبحت أوربا باعتبارها رافعة لواء التقدم المبني على العقل تمارس تأثيرا عظيما على طليعة من المثقفين, غير أنها ظلت تحتفظ بدور مزدوج, فهي المثال الذي يحتذى والخصم الذي يجب مقاومته في الوقت نفسه. وأدى التمدين ونشر العلم إلى تغيير في البنية الاجتماعية لا مثيل له, وإلى ظهور طبقة مثقفة سريعة النمو أصبح أبناؤها يجتمعون في مجالس وندوات ومقاه وجمعيات لتبادل الأفكار, وتحديد موقفهم من سير ذلك التحول الذي زعزع القيم التقليدية بينما ترك الطريق إلى المستقبل أي (العصر الحديث) يلفه الكثير من الغموض. لكن المترددين على مثل هذه المجالس كانوا ـ وفقا للتقاليد ـ من الرجال فقط. ومع أن النساء كن قد بدأن بالالتحاق بالمؤسسات التعليمية, والكتابة بأسماء مستعارة, وتأسيس مجلات وجمعيات خاصة بهن, إلا أنهن بقين معزولات إلى حد بعيد عن الحياة العامة.
جاءت نساء من أمثال مي زيادة تعبدن الطريق لإنهاء التجمعات التقليدية التي كانت تقتصر على الرجال, وذلك بفتح أبواب منازلهن وتحويلها إلى صالونات للحضور من الجنسين. وقد هيأن عبر هذه الصالونات مجالا سمح بالتعامل المتساوي بينهما. غير أنهن لم ينشئن بهذا مجرد نمط جديد من أنماط المجالس, بل ونوعية جديدة من السلوك الاجتماعي. ومن خلال ذلك تغير معنى الثقافة فلم تعد تقتصر على توفر مجرد المعرفة, بل صارت تعني كذلك إرهاف الضمير وتهذيب العادات والذوق والأخلاق. إذن فالصالونات كانت بطابعها النسائي أدبية بكل معنى الكلمة, بل وقد حولت إلى مشروع جمالي لم تستطع تحقيقه ولم تستهدفه أصلا المجالس التي ساد فيها الرجال. وقد أصاب الشاعر المصري إسماعيل صبري, وكان من أوائل المترددين على صالون مي زيادة, عندما وصف هذا الفرق بما يلي: (لاحظ مجلسا من مجالسنا احتشد فيه الرجال والشباب, فماذا تجد؟ تجد الحركات العنيفة والأصوات الناشزة, والمناقشات الفجة, الأحاديث الجريئة والكلمات المندية, والذوق العامي, والإحساس البطيء؟؟ لاحظ هذا المجلس وقد حضرته امرأة واحدة لا غير, تجد الحركات تتزن, والأصوات تدق, والمناقشات تنتج, والأحاديث تحتشم, والكلمات تنتقى, والذوق يسمو, والإحساس يدق..).
وهكذا حققت الصالونات ثورة صامتة, ثورة الروح والظرافة, ونشأت وازدهرت فيها رقة جديدة تماما في المشاعر وجدت تعبيرا لها في الشعر والنثر.
خرق التقاليد
وكما هو معلوم, لم تكن مي زيادة أول امرأة تجرأت على خرق التقاليد بإدارة صالون, فهناك نساء من الطبقة العليا مثل الأميرة نازلي فاضل في القاهرة أو ألكسندرة أفيرينوه في الإسكندرية قد قمن بمثل هذه الخطوة قبلها, وهنالك من سبقها خارج مصر, أغلبهن مسيحيات من لبنان وسوريا, تلقين تعليمهن في مدارس أوربية, وبهذا كن منفتحات على فكرة الصالون بوجه خاص.
وكانت مي زيادة هي الأخرى مسيحية ومتخرجة في مدارس تبشيرية جعلتها متأثرة بالآداب الأوربية, إلا أنه توفرت فيها مميزات حققت لصالونها جاذبية خاصة. لقد حققت مي أعلى مستوى للتعليم والثقافة كان يمكن أن تحققه امرأة في عصرها فالتحقت بالجامعة المصرية في وقت لم يكن يسمح فيه رسميا للنساء بالدراسة بعد. كما منحتها جريدة والدها الفرصة لنشر مقالاتها الأولى والتعرف على أوساط الناشرين والصحفيين والأدباء. وخلافا لمعظم زميلاتها من صاحبات الصالونات في البلدان العربية لم تكن مي متزوجة, ثم إن صالونها كان الوحيد في القاهرة آنذاك الذي أدارته امرأة واستقبلت فيه ضيوفا من الجنسين.
وبفضل شخصية مي, أصبحت أمسية الثلاثاء في صالونها حدثاً فريداً, لم يرد أحد من رواده ـ ومعظمهم من الرجال ـ أن يفوته حضوره. وفي الوقت نفسه لم يكن بالإمكان إقامة الصالون والتمتع بالمكانة الاجتماعية المرموقة له لو لم يكن يقام في إطار تقليدي, وهو بيت العائلة وحضور الوالدين. فخرق التقاليد الذي يشكله الصالون حدث كما نرى في نطاق التقاليد وتحت حمايتها.
لقد ميز الربط بين التجديد والتقليد بنية صالون مي ومهمته, وساهم مساهمة فعالة في التقاء شخصيات جد متباينة لمدة تقارب عشرين عاما, لتبادل الآراء بصرف النظر عن الفوارق الاجتماعية والدينية والعقائدية, ومنهم الدكتور شبلي شميل من أنصار مذهب داروين ويقابله العلامة الأزهري مصطفى عبدالرازق, كذلك الشاعر مصطفى صادق الرافعي وأشد نقاده عباس محمود العقاد. وعندما وصف طه حسين صالون مي بأنه (ديمقراطي) على العكس من صالون الأميرة نازلي فاضل (الأرستقراطي) قصد بذلك قوة الإدماج الفريدة هذه التي اتسم بها صالونها.
نقد صالون مي
والجمع بين أنصار الآراء المختلفة الذي حققه هذا الصالون, حتى في مرحلة تصاعدت فيها الحزبية السياسية بعد استقلال مصر الشكلي, كان من أسباب نجاحه كما كان من أهم أهداف مي زيادة. وعندما وجه سلامة موسى, فيما بعد, سهام نقده إلى صالون مي قائلاً إنه كان ينقصه الهدف والبرنامج وإن وجوده استند إلى جمال صاحبته وفتنتها فقط, فلقد فاته أن مي تعمدت في صالونها عدم الالتزام الأيديولوجي. ولا ننسى أن مي, المسيحية المشرقية, كانت تميل إلى اتخاذ مواقف وفاقية معتدلة في القضايا السياسية والاجتماعية, كوسيلة تجعلها مقبولة في المجتمع المصري الذي كانت ترغب فعلاً في الانتماء إليه.
والصالون بالحرية الفكرية والاجتماعية التي وفرها لكل من المضيفة والضيوف شكل منبعاً للإنتاج الأدبي. فبالنسبة لمي زيادة أصبح العامل المحرك لمسيرتها الأدبية, لأنها تمكنت فيه من توطيد العلاقات مع الأدباء ومن سماع النقد والمشورة والتقدير بشكل مباشر أغناه الحوار المتبادل. كما أن الناشرين المترددين عليه كانوا يقترحون عليها أفكارا تصلح لكتب جديدة تؤلفها. وكان رواد الصالون من المؤلفين يكتبون المقدمات لبعض مؤلفاتها. كما كتبت هي كذلك مقدمات لأعمالهم. ولم يكن ذلك مألفوا في زمن كانت فيه مؤلفات المرأة لا غنى لها عن كنف قلم أحد الرجال.
طقوس الصالون
وقد أتاحت لها تلك المناقشات تهذيب قدرتها على بناء الأحكام مما جعلها تتميز فيما بعد في مجالات النقد الاجتماعي والأدبي والفني. وقد انعكست الطقوس المتبعة في صالونها, من حرص على الكلام المنتقى وولع بالملح واللطائف المنطوية على البلاغة والحكمة في إيجاز جميل, انعكست هذه الطقوس في بعض كتاباتها مثل (خواطر متناثرة) و(سطور) و(شرر وحبب) التي نشرت في العديد من الصحف والمجلات. ودفعها قربها الوثيق من شخصيات صالونها إلى كتابة عنها في حياتها وإلى رثائها بعد رحيلها, كتابة اتسمت بالعمق والنقد المتبصر خالية من كلمات الإطراء التقليدية الرنانة التي طغت على مدائح ومراثي عصرها. ويتجلى هذا الأسلوب الجديد في كشفها عن الوجه الآخر لشبلي شميل, نصير المادية ومدعي الاحتقار للفنون, قائلة إنه شاعر رغم أنفه, أو عند تسميتها إسماعيل صبري لرقة عاطفته وبساطته وجلائه شاعراً كبيراً (على بضاعته الشعرية المحدودة).
أما الـ (رجال حول مي) كما عنون العقاد لذكرياته في الصالون, فإن اللقاءات الودية وتبادل الأفكار مع هذه الأديبة قد ألهب خيالهم وأثرى إبداعهم. وحسب فتحي رضوان, الذي تردد على الصالون في آخر عهده, فقد أخرجهم هذا الصالون (من دنيا جامدة خامدة إلى عالم متحرك حر, تشم فيه رائحة القلوب). أصبحت لغة القلوب أو (الفن العاطفي) كما سماها العقاد هي السمة الغالبة على الأدب الذي كان ثمرة هذا الصالون. وقد عبر الضيوف في الكثير من أشعارهم المهداة لمي ليس فقط عن إعجابهم بها وتقديرهم لها, بل وعن محبة صادقة وارتباط وطيد لم يكن معهودا آنذاك بين رجل وامرأة لا تربطهما علاقة الزواج. على أن الميل إلى إجلال مي الرومانتيكي في هذه الأشعار سواء في صورة الإلهة إيزيس, كما هو الحال في إحدى قصائد خليل مطران, أو في شخصية مريم العذراء, كما رسمها العقاد في بعض أبياته, قد عكس العرف السائد في هذا الصالون ألا وهو قرب صاحبته من ضيوفها مع استحالة الفوز بها.
غير أنه كان بين رواد الصالون من لم يكن يدرك الحد المتاح له من الحرية جيداً, فالرافعي الذي حاول تجاوز هذا الحد عندما ألح في خطب ود مي, آثر اعتزاله في غضون مدة وجيزة. لكن الآمال الخائبة لم تبارحه طيلة سنين, فأملت عليه عكسها في ثلاثة أعمال نثرية تناولت مختلف جوانب الحب. وتطور نقد طه حسين والعقاد اللاذع للأسلوب التقليدي لهذه الأعمال وردود الرافعي الشديدة اللهجة, خصوصاً في الجدل المثار حول كتاب في (الشعر الجاهلي) لطه حسين, إلى معركة أدبية شكل الصالون خلفيتها مع أنه لم يكن طرفاً مباشراً فيها.
وحتى رواية العقاد (سارة), تجربته الوحيدة في هذا المضمار الأدبي التي يعتقد أنه عرض فيها علاقته بمي بتجسيده لها في شخصية (هند), فإن من الصعب تخيل إبداعها لو لم يتعرف عليها عن كثب في الصالون.
لقد صبغت اللهجة الأسرية للتعامل في الصالون أسلوب الرسائل المتبادلة بين مي وضيوفها بصبغتها, فاتسمت بالزهد في عبارات المجاملة الجامدة المستهلكة, وبالبساطة والوضوح والعفوية. كانت بمثابة مواصلة للحديث خارج الصالون وفي غير أوقاته المعتادة, وتعبيرا عن الشوق لذلك الأنس الذي لم يكن يتسنى لرواد الصالون معايشته في واقعهم الاجتماعي. وبهذا المعنى كتب يعقوب صروف مرة يرد على رسالة من مـي: (أما أنت وكتــابك يا حبيبتي فقد رفعاني.. إلى (الأتوبيا) التي نحلم بها).
الأدب الخاص
ومن خلال نوع المراسلات وحجمها خلق صالون مي زيادة, حسب شهادة العقاد, صنفاً جديداً من صنوف الأدب العربي وهو (الأدب الخاص). وتطور فن المراسلة هذا من الخاص إلى العام. فظهرت آنذاك مقالات أخذت شكل (الخطاب المفتوح) وأصبحت وسيلة مهمة من وسائل النقاش العام. ولم يكن نشر مثل هذه الخطابات وحده هو الذي جعل تأثير صالون مي يمتد إلى خارجه. فالحفلات التي كانت تقام فيه تكريما لبعض المؤلفين وعلى شرف أدباء وعلماء أثناء مرورهم بمصر, جعلته محط أنظار الرأي العام كما ساهمت في إيجاد حوار أدبي عالمي.
على الرغم من أهمية هذا الصالون, فالمجتمع المثالي الذي كان يطمح إليه بقي حلما في أكثر من وجه. فلم يتسن له كملتقى لنخبة فكرية ذات توجه غربي تحرري إلى حد بعيد, تعميم تأثيره على بقية المجتمع, بل كان من رواده من لم يساند أهدافه مساندة صريحة, كما أن مي لم تلق اعترافا مطلقا بها ســواء كامرأة أو كأديبـة. فها هو العقاد ينتقص من مكانتها الأدبية إلى حد جعلها تقتصر على الجانب الاجتماعي. إذ كتب يقول: (بهذه الروح الرءوم جعلت مي مباحثها كلها سمرا مؤنسا, وصيرت الدنيا كلها غرفة استقبال لا يصادف فيها الحس ما يصدمه ويزعجه) أما سلامة موسى فقد رأى أن مي كانت خطيبة أكثر منها كاتبة, مستندا إلى التفرقة التقليدية التي جعلت الكلام للمرأة والنص للرجل. كما حكم عليها بأنها حسب التقاليد الشرقية, لا يمكن التفكير فيها كزوجة لمجرد إدارتها صالونا.
وبين إغلاق الصالون عقب وفاة والدي مي كيف أن التحفظات التقليدية ضد الاختلاط بين الجنسين مازالت مستمرة. وبهذا فقدت مي محيط حريتها المعتاد. وتزامن ذلك مع سريان تيار في المجتمع المصري يدعو إلى العودة من جديد إلى القيم الإسلامية إعراضا عن المثل الغربية الليبرالية, ولقي ذلك تأييدا من بعض رواد الصالون. وهكذا بدأت مي تشعر بعزلة متزايدة, واتضح لها أن الصالون الذي تحقق فيه الاندماج الاجتماعي لمدة تقارب عقدين من الزمان, كان مكانا ترعرعت فيه الأحلام المستحيلة. وكانت التحولات السياسية الاجتماعية مطلع الثلاثينيات قد ساهمت في إغلاق الصالون وفي المنعطف المأساوي في حياة مي. كما كانت سببا جعل بعض الكتـابات التي تناولت موضوع مي زيادة تسيء فهم شخصيـتها وظروفـها وأهـداف صالونها إلى حد تشويه سمعتها الأخلاقية والفكرية في كــثير من الأحيان.