All Posts By جهاد فاضل

في وداع تركي السديري

يمكن لمن عرف تركي السديري عن قرب، وخبر مكارمه وسجاياه، كما عرفته أنا طيلة ستة وثلاثين سنة، وخبرت تلك المكارم والسجايا في ذات شخصية نادرة، أن يتحدث عن انحيازات فطرية عنده. فقد كان بداية منحازاً إلى الحقيقة والحق والعقلانية والتقدم، وهذا واضح من الخط العام لجريدة «الرياض» في عهده، وبخاصة من تلك المقالات التي حملت توقيعه في الصفحة الثانية من الجريدة، والتي إذا جُمعت اليوم شكلت ملمحاً من ملامح التاريخ السعودي والعربي المعاصر. وهي مقالات تبرز «أباعبدالله» حكيماً وأديباً معاً، بل معلّماً للعقل والأدب كما يقال عادة عن الجاحظ. ورغم أنني طلبت مراراً منه أن أتولى بنفسي اختيار مجموعة من تلك المقالات لإصدارها عن أحد دور النشر في بيروت، إلا أنه لم يوافق مرة على هذا الأمر.

وحبذا لو عمدت «الرياض» اليوم إلى ذلك، لسلم للقارئ كتاب ليس كمثله كتاب. ويكفي أن يكون واضعه الصحافي الكبير الذي كان يخفي أديباً كبيراً.

كثيراً ما تساءلت عن سر تلك الشخصية الساحرة لتركي السديري وعن سر تلك السجايا المبثوثة في ذاته والتي لا يخطها كل من اقترب منه أو تعامل معه. يكن للكثيرين من مريديه وأصدقائه أن يدلوا بشهاداتهم وأن تؤلف هذه الشهادات نقطة انطلاق لكتاب عن الراحل الكبير، ولكنني وجدت هذا السر في انتسابه إلى أسرة كريمة عريقة تربى فيها على الفضائل فباتت هذه جزءاً من تكوينه، لم أعرف في حياتي إنساناً في مثل نقائه وصفائه وسيرته، كان أكبر الناس في عيني وعندما أتذكره الآن استدعي عبارة «الإنسان الكامل» لبعض فلاسفة العرب القدماء، كان إنساناً كاملاً شريفاً طاهر النفس مؤمناً بخالقه وبرسوله وكل القيم التي تربى عليها، وهي تلحقه بقافلة الأطهار والأحرار.

كانت «الرياض» في أيامه منبراً للسياسة والفكر والأدب، جريدة سياسية وطنية وقومية معاً، كما هي منبر للأدب والثقافة، أوكل تركي السديري صفحاتها الثقافية لنخبة من الأدباء والشعراء والمثقفين، وفتحت الجريدة أبواب هذه الصفحات للأدباء والشعراء والمثقفين العرب إلى أي مذهب فكري أو أدبي انتموا، وعلى صفحات «الرياض» يجد المرء معارك الأقلام ونبض التيارات الحديثة وتيارات الحداثة في آن، كان منحازاً للحديث كما كان موفراً للقديم، شأن كل من يعرف قوانين الحداثة وأصولها، وكان متابعاً لتيارات فكرية وأدبية معينة، كثيراً ما أوصاني على كتب تراثية وإرث حول موضوعات معينة، وكثيراً ما طفنا معاً، معرض الكتاب السنوي في القاهرة، لسنوات طويلة، يختار منه ما يحلو له، ولم أزر الرياض مرة إلا واتصلت به من بيروت مسبقاً لأسأله عن الكتب التي يريد، وقبل سنتين، وفي آخر لقاء لي معه في «الرياض»، كان من جملة الكتب التي أحضرتها له كتاب عن «الديارات» في التراث العربي، فلما وصل إليه قال لي: «هذا الكتاب سبق أن أحضرته لي» وكثيراً ما استمعت إليه في مجالس أدبية في القاهرة أو الرياض أو بيروت، أو سواها، فأنصت إليه وأستمتع وأستفيد، وأتمنى لو أتاح له وقته أو ظرفه أن يولي الأدب أكثر مما أولى.

وأقف الآن أمام ذكراه متحسراً مترحماً على تلك النفس الأدبية الشريفة وعلى تلك الخصال والسجايا التي يندر أن تجتمع في شخص واحد، وأتساءل كما تساءل العقاد أمام ضريح أحد أحبائه: أكلُّ هذا للتراث؟ آه من هذا التراب!

حول ابن خلدون و«مقدمته»

إذا اطلع المرء على ما ينشر في العالم العربي من دراسات عن ابن خلدون الى وقتنا الراهن تبين له ان الغبار لم يسط سطوا شاملا على صاحب المقدمة كما سطا على سواه من العلماء القدماء الذين لا يتناولهم احد اليوم فكثيرا ما يشهد سوق النشر العربي كتباً شتى تتناول ابن خلدون يكتبها عادة اكاديميون مختصون به او بالفكر العربي القديم ولعل احدث ما صدر من هذه الكتب كتاب صدر عن «دار الكتب والوثائق القومية» بمصر هو حصيلة ندوة شارك فيها باحثون مصريون تعرضوا لجوانب مختلفة في «المقدمة» وصاحبها وكالعادة استأثرت الأبحاث التقليدية التي تدور عادة حول ابن خلدون كآرائه في فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع والاقتصاد السياسي بقسط كبير من اهتمام الباحثين دون ان يعرض أحد لارتباطاته الفكرية بأسلافه ومعاصريه من الفلاسفة والمفكرين سواه في التراث العربي او في التراث الأجنبي وهذا يعني أن النهج الذي نهجه ساطع الحصري في دراسته الشهيرة عنه والتي تعود الى اكثر من ثمانين عاما والتي تستفيض في وصف عبقريته الخلاقة ما يزال هو النهج السائد عند الباحثين العرب في تلك الدراسة يؤكد ساطع الحصري «التدفق الفجائي» و«الحدس الباطني» والاختمار اللا شعوري عند ابن خلدون اعتماداً على بعض العبارات الواردة في آثاره حتى ليخيل الى القارئ ان ابن خلدون رأى تاريخه وفكره وفلسفته ومنهجه فيما يشبه الرؤيا التي يراها بعض الشعراء وعذرهم في هذا ان ابن خلدون نفسه كان يحب ان يؤكد هذه المعاني في روع قارئه ليؤكد له انه واضع مبتكر لا ناقل جامع.

ولعل الباحث العربي الوحيد الذي اخضع ابن خلدون لدراسة علمية مختلفة عن الدراسات التقليدية التي تقتصر على تمجيد ابن خلدون ولا تتقصى مصادره وقراءته وثقافته في زمانه، هو الباحث المصري الدكتور لويس عوض الذي كتب في جريدة «الجمهورية» القاهرية في مطلع الستينيات من القرن الماضي اربع مقالات لم يسبق اليها أثارت في زمانها من المعارك ما لم تثره اي قضية فكرية اخرى ولا تزال الى اليوم بحاجة الى فحص لمعرفة ما تتضمنه من دقة وصحة فقد تكون خط عضا وقد تكون فتحاً في الدراسات الخلدونية ولكن المؤسف ان الذين سفهوها كانوا من المصدقين بلا تحفظ ولا احتياط وهذا يعود بنا الى منهج البحث في القرون الوسطى حيث يجد الباحث نفسه مهتماً أشد الاهتمام بأنساب ابن خلدون الجسدية غافلاً تمام الغفلة عن أنسابه الفكرية والروحية.. مع ان الأجدى من كل ذلك في أي بحث يدور حول هذا المفكر العظيم هو ان ندخل مكتبته لنعرف ماذا احتوت من الكتب وان مختلف معه إلى مراكز الثقافة وندواتها وصالوناتها لنرى مع من كان يتجادل في العلم والفكرة وفيما كانوا يتجادلون وماذا كانت اهتمامات المثقفين وأفكارهم في عصره، سواء في بلاده او في غيرها من بلاد الله الواسعة.

درس لويس عوض ابن خلدون دراسة مختلفة عن دراسة الاخرين فاستنتج انه كان يقرأ بالعربية واللاتينية ايضاً فهو يقول: إن ابن خلدون لا يفتأ ينوه بمراجعه ولا ينسى ان ينسب اغلب ما ينقل من آراء ووقائع الى اصحابها فيرجع بنا الى جوزيفوس والى اوسبيوس والى كليمنت الاسكندري والى اوروسيوس وغيرهم من مؤرخي اليونان والرومان وفلاسفتهم. ثم يلفت لويس عوض الانتباه الى شيء مهم وهو ان بين هؤلاء من نعرف انه كان مترجماً الى العربية، ومنهم من لا نعرف له ترجمة عربية. كما اننا لا نجد أسماء هؤلاء المؤرخين بنطقها الأصلي، وانما محرفة في ابن خلدون وغيره على طريقة كتاب العربية في تلك الأيام..

وعنده ان ابن خلدون أثناء إقامته في المغرب حيث كان يخدم الملوك، زار إسبانيا مرتين واتصل بيني الأحمر في غرناطة، فأوفدوه في سفارة الى بلاط بطرس الظالم ملك كاستيل في اشبيليا «ولا احسب ان بني الأحمر كانوا ليوفدوا ابن خلدون سفيراً الى بلاط كاستيل الا اذا كان يتكلم لغة قطالونيا والا إذا كان يقرأ اللاتينية في بلد وعصر كان يهدر دم كل من يكتب في جادة الامور بغير اللغة اللاتينية. ومن اغرب الغرائب ان نتصور ان ابن خلدون كان مقيماً في اشبيليا ولا يجري لسانه الا باللغة العربية في عصر تقلص فيه كل ما كان للعرب من سلطان في اسبانيا ولم يبق في يدهم الا دولة غرناطة تحت حكم بني الاحمر».

وينتقل لويس عوض الى براهين اقوى على معرفة ابن خلدون باللاتينية وغيرها فيقول ان ابن خلدون يقرر في المقدمة ان ما يشغل باله في فن التأليف، هو ان يجعل قارئ العربية ينطق الكلمات الاجنبية كما ينطقها اصحابها. وبعد ان يلقي علينا درسا في الفونيطيقيا او علم الأصوات وكيفية خروج الأصوات من الحنجرة واللسان والحلق والنهاة على نحو ما نقول اليوم في علم الاصوات ينبه قارئه الى الفوارق الصوتية بين ابجديته العربية وغيرها من الأبجديات والى قصور ابجدية معينة في التغبير عما في اللغات الاخرى من اصوات.

وهذه بغير شك ادلة قوية يقدمها الباحث المصري الذي يضيف: ولست احسب رجلاً يبلغ به الحرص درجة إكراه قارئة على نطق أعجمي الكلام والاسماء نطقا سليما الا عارفا باللغات التي تعرض لها او لبعضها على الاقل.

ولكن هل انتفع ابن خلدون بالنظريات التي قرأها مترجمة او غير مترجمة الى العربية لعلماء يونانيين او غير يونانيين قدماء ولو انه تصرف فيها لتلائم نظرياته؟ اذا كان ابن خلدون قد تحدث في مقدمته عن مراحل ثلاث تمر بها الأمة، فإن عوض يرى ان ابن خلدون اخذ بنظرية الدورات التاريخية عن اوروسيوس وان اختلف عنه في تفسير قيام الدولة وانيهارها. لا نجد عند ابن خلدون اثرا لنظرية القصاص الإلهي التي بنى عليها اورو سيرس فلسفته في التاريخ بل نجد نظرية اخرى هي النظرية البيولوجية او العضوية في فهم نشوء الدول وارتقائها ثم انهيارها واندثارها اما كيف يتم تأسيس الدولة وكيف يتم فسادها فقد فسره ابن خلدون بأن عامل بناء الدولة هو العصبية او ما نسميه اليوم بالقومية اما انحلالها فمرده الى عاملين هذا الترف والطغيان ان كل حضارة عنده تحمل جرثومة الحلالها في باطنها.

ولم تمر مقالات لويس عوض الأربعة مروراً عابراً بل توقف عندها باحثون كثيرون منهم احمد رشدي صالح الذي كتب في مجلة الكاتب: ان الطريقة التي اتبعها الدكتور لويس طريقة خاطئة مئة بالمئة فضلاً عن انها لا تقوم على أي أساس او منطق علمي. فلماذا نفترض ان ابن خلدون قد استقى أفكاره عن حضارة اوروبا وبلغة أوروبية؟ ويجيب بأن التبرير الوحيد لهذا الافتراض هو ان نعثر على أفكار كبيرة عنده تعجز عن إنشائها، أو تجهل أمثالها الحضارة العربية، وعند ذاك يجوز ان نجري وراء المصادر الأجنبية نعرف أي المصادر كان منبع أفكاره».

وقد ذكر الدكتور عبدالرحمن بدوي في كتابه «الخطاب التاريخي دراسة لمنهجية ابن خلدون انه يريد ان يتناول في هذا البحث جانبا مما اهمل الباحثون وهو المصادر اللاتينية واليونانية التي استعان بها ابن خلدون في كتابه الجزء الأول من تاريخه وهو التالي «للمقدمة» مباشرة: «اعني فيما يتعلق بتاريخ اليونان والرومان».

ويتجاهل بدوي تناول عوض هذا الموضوع قبل ذلك بعشرين عاماً لكن نشر بدوي نص الترجمة العربية لكتاب «تاريخ العالم» لبالووس اوروسيوس اتاح للباحثين فرصة نادرة للاطلاع على هذا النص الفريد والتعرف على أثره الواسع عند المؤلفين العرب وصولا الى ابن خلدون والمقريزي في القرن الخامس عشر.

وبنصف لويس عوض ابن خلدون في مقالاته عندما يعتبره رسولاً من رسل القومية ظهر في عصر تكون القومية في مغرب الأرض ومشرقها وهو عصر النهضة ومن أجل هذا نقول إن ابن خلدون مفكر آمن بالإنسان وحضارته وعلومه وآدابه ظهر في عصر الهيومانيزم او المذهب الإنساني لقد كان ابناً شرعياً لحركة الرينسانس حين اعلن ان الدولة القومية بمعناها الزمني الحديث خطوة متقدمة على السلطة الابوية».

شارك الدكتور محمد مندور في هذه المعركة الحامية الوطيس سخر من السلوب التقني العاطفي باسبقية مفكرينا ودعا الى المنهج السليم لدراسة التراث وقال في «الجمهورية ١٣ سبتمبر ١٩٦١» ان المنهج العلمي الذي ندعو اليه يتقينا في الحكم على مفكر كبير كابن خلدون ألا نكتفي بتقرير سبقه لهذا المفكر العالمي او ذاك والاستشهاد على ذلك باحكام الاوروبيين من مستشرقين وغير مستشرقين بل يتقينا ان نبحث في مقدمة ابن خلدون عن كل رأي او نظرية او علم او منهج بحث قال به ثم تبعه في ذلك هذا المفكر الاوروبي او ذاك فأضاف الى ما سبق اليه ابن خلدون او نماه وبذلك نقدم الحيثيات الموضوعية لأحكامنا وأحكام غيرنا كما نقدم لقرائنا دراسة تاريخية سليمة للنظريات والآراء العالمية».

هذه هي بعض الملامح البازرة لتلك المعركة الفكرية التي دارت في الصحافة المصرية في بداية الستينيات من القرن الماضي حول ابن خلدون ومصادره. وقد شارك فيها كما رأينا نخبة من المثقفين والباحثين الذين اتفقوا واختلفوا. المؤسف ان تلك المعركة لم تفرز نتائج حاسمة، ولم يكن لها صدى في الدراسات الخلدونية اللاحقة. فما زالت دراسة ابن خلدون على أيدي الباحثين المعاصرين تجري على نفس النسق الذي كانت تجري عليه في النصف الاول من القرن العشرين زمن محمد عبدالله عنان وساطع الحصري ورفاقهما. بل ان هذه الدراسات الخلدونية الحديثة قد تخلفت في وقتنا الراهن اكثر مما كانت متخلفة في بداية الاهتمام العربي «بالمقدمة» وصاحبها يشهد على ذلك الكتاب الصادر عن «دار الكتب والوثائق القومية بمصر» الذي أشرنا اليه والذي لا يحيوي سوى دراسات سطحية متخلفة تدل على مدى انهيار عالم الأبحاث والدراسات اليوم في العالم العربي «ربما كانت معركة لويس عوض ومؤيدوه ومناهضوه أشبه بومضة عابرة كانت جديرة بأن تتحول الى فجر جديد للدراسات الخلدونية وغير الخلدونية حول تراثنا القديم وضرورة دراسته حسب المناهج والطرائق الحديثة، فإذا بها مجرد ومضة سرعان ما ضيت وانطفأت إلى غير رجعة.

قراءات ودراسات أدبية

قراءة نقدية: الكتابات النسائية في مواجهة الجسد
جهاد فاضل
تقدم هذه الكتابات وجهة نظر ذلك الكائن خافت الصوت. مهيض الجناح في نظر البعض.

وينظر إليها النقّاد بوصفها كتابات ذات نكهة مختلفة.

من بيروت في المشرق إلى الدار البيضاء في المغرب، مروراً بالقاهرة وسواها من العواصم العربية، تجتاح دور النشر في العالم العربي موجة من الكتب الجنسية تتوسل أسلوب الرواية حيناً، وأسلوب البحث والدراسة حيناً آخر، متعرّضة لتلك العلاقات المسكوت عنها، المحرّمة أو غير المحرّمة، بين الرجل والمرأة، أو بين المرأة والمرأة. مؤلفو هذه الكتب نساء لا رجال، لذا فهي ذات (نكهة) مختلفة عن الكتب المماثلة التي يكتبها الرجل أو الرجال.

في بيروت قد تكون ليلى بعلبكي التي كتبت روايتها (أنا أحيا) في الستينيات من القرن العشرين أول كاتبة لبنانية خرجت من جناح الحريم في منزل الرجل غاضبة ومعلنة العصيان عليه. وفي تاريخ الأدب الحديث في لبنان، مازالت ليلى بعلبكي تحظى بمنزلة الرائدة في مجال رفع الصوت ضد سلطة الرجل والمطالبة بتحقيق المساواة معه.

ولكن مَن يطالع (أنا أحيا) اليوم، يجد أن أهداف كاتبتها تبدو متواضعة أمام أهداف كاتبات عصرنا، سواء كنّ لبنانيات أو غير لبنانيات.

وتأخذ صورة الرجل في بعض هذه الكتابات النسائية صورة العدوّ، لا صورة المتحكم المستبد المطلوب نزع بعض صلاحياته أو امتيازاته وحسب. ولا تتردد هذه الكتابات في تذكير الرجل بأن المرأة كانت في سالف الزمان هي الآمرة، لا هو. وما تكتبه بعض الباحثات أو الروائيات العربيات في هذا المجال، شبيه بما يكتبه الماركسيون عن الصراع الطبقي وضرورة استبدال صاحب سلطة بصاحب سلطة آخر.

وتتخصص كاتبات عربيات بالكتابة عن موضوع المرأة والجنس والمسكوت عنه في العلاقة بين المرأة والرجل، أو بين المرأة والمرأة، أو في موضوع (الجسد) بالذات. ففاطمة المرنيسي المغربية متخصصة في مثل هذا الموضوع.

أما الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي فإن أعمالها تُقرأ من عناوينها: (الكتابة في لحظة عري)، و(ذاكرة الجسد)، و (فوضى الحواس). وقد وعدت أحلام قرّاءها بأن روايتها القادمة ستحمل عنوان: (سرير لرائحتك)، وفي هذا العنوان ما يشعل المخيلة ويشي بمكان مريح ودافئ في الوقت نفسه لأحداث الرواية.

وفي بيروت، صدر أخيراً كتابان أنثويان دافئان: الأول للدكتورة إلهام منصور أستاذة علم النفس في الجامعة اللبنانية، يحمل اسم (أنا هي أنت) ويدور موضوعه حول العلاقات المثلية بين النساء، والثاني للدكتورة منى فياض الأستاذة في الجامعة اللبنانية أيضاً، ويحمل اسم: (فخ الجسد: تجليات، نزوات، وأسرار)، وهو كما يشير عنوانه يدور في فلك الجسد، محاولاً تلمّس عالمه المملوء بالرغبات والأسرار، والغائب عن موضوعات الكتابة في حين أنه محرّكها وأحد موضوعاتها الأساسية.

كتاب إلهام منصور عبارة عن رواية تدور أحداثها بين بيروت وباريس، ولعلها أول رواية عربية أفردها مؤلفها للحديث عن العلاقات العاطفية بين النساء من خلال خطاب صريح ومباشر للإناث والذكور معاً.

فهي تسلط الضوء على خفايا العلاقات المثلية من ناحية، وتشير من ناحية أخرى إلى الهوّة والشرخ في علاقة الذكر بالأنثى وعدم فهم رغباتها، الأمر الذي يؤدي إلى هروب هذه الأخيرة نحو علاقة غير سوية.

أما الدكتورة منى فياض، فقد قدمت قراءة خاصة في أحوال الجسد وفي ما كُتب حوله. ارتكزت في بحثها على أن الجسد معطى جوهري يتم البحث عن خصوصياته الموجودة على مستوى من العمق يجعلها مشتركة بين البشر كافة. فمهما كانت ملابسنا مختلفة، فإن للابتسامة أو للألم أو للأنين أو للفرح المعنى ذاته.

ترى الباحثة أن دخولنا إلى العالم يتحقق في اللحظة التي نظهر فيها كجسد. فوجودنا هو جسدنا، وهويتنا هي في هذا الجسد، ومماتنا أيضاً يحصل على مستوى الجسد نفسه. ومع بروز الثورة الجنسية وثورة العري في الستينيات، بدأ الجنس والحب، وهما الأكثر ارتباطاً بالجسد، يظهران كضرورة شفائية تسهم في المحافظة على التوازن النفسي. وعلى الرغم من أن عالمنا العربي لم يتبع النسق ذاته الذي اتبعه الغرب في هذا الإطار، فإن هذه المؤثرات طاولته بدرجات متفاوتة.

وتعتبر الباحثة أن (المشكلة) في العالم العربي عميقة لأنها تطاول بنية الشهية العربية التي تقمع وتكبت كل ما يساعد على تفتحها وبلورتها. وهي تتعلق بالتحوّل الحاصل في تعاملنا مع الحب والجنس لجهة تحقيرهما واستبعادهما من مستوى التداول الطبيعي إلى الزوايا المعتمة المخجلة.

وتلقي الباحثة الضوء على قوانين الإثارة، فترى أن غواية المرأة تزداد كلما ازداد تحجبها، فيصبح أي جزء من جسدها مصدر غواية وفتنة، ولا يعود عندها التعامل مع هذه المرأة موضع التحريم سوى بإخفائها كليّاً عن الأنظار.

فصول كثيرة عن الجسد ونزواته وأسراره في الكتاب، وهي تشرح كذلك علاقة النساء بالحب وتوقعاتهن من الرجال، فتخلص إلى أن بعض النساء يشعرن بالذنب لأنهن يرغبن بالإفراط في الكشف عمّا في قلوبهن. كما أنهن يختلفن في نظرتهن إلى الجنس عن الرجال. فبينما يرى الكثير من الرجال أن العلاقات الجنسية تحل محل التواصل، تعتبر النساء أن غياب المبادلات الشفهية يسلب إجمالاً الفعل الجنسي المعنى والعمق.

بالإضافة إلى ذلك تحاول منى فياض سبر أغوار علاقة الزواج وقضاياها، وما هي العزوبية والعلاقات الحميمة عند المتزوجين والمتزوجات؟ كما تفرد فصلاً خاصاً لكيمياء الحب، فتستنتج أن المتعة أو الألم اللذين يسببهما الحب، ناتجان عن تنشيط أجهزة الكيمياء العصبية بواسطة الانفعالات التي يسببها، وترى أن عوارض الحب والتعلق تشبه عارض الإدمان.

وبالتالي، فقد يتسبب الانفصال عن الحبيب بألم بيولوجي حقيقي ويكون كمدمن المخدرات عندما يتعرض للحرمان المفاجئ والقاسي.

(فخ الجسد/تجليات نزوات وأسرار) كتاب يدور في فلك الجسد راصداً أسراراً كثيرة فيه، عاملاً على شرحها وتحليلها تحليلاً علمياً بحتاً.

كتابان مثيران في العاصمة اللبنانية كتبتهما باحثتان جامعيتان حرّكتا الكثير من الجمود السائد في الحياة الثقافية والاجتماعية في لبنان في الوقت الراهن، بالرغم من الملاحظات التي قد تُوجّه إليهما، أو التي وُجهّت إليهما فعلاً.

إلى أن نلتقي

جهاد فاضل
نعم للرواج ولكن!
ليس معيار جودة العمل الأدبي أو الفني رواجه. فقد يروج هذا العمل رواجاً واسعاً ولا تكون له تلك الجودة الرفيعة المقام. فقد عرفت أغنية لوديع الصافي في الستينيات من القرن الماضي, وتدعى (علّوما اللوما اللوما) رواجاً لم تعرفه أغنيات أم كلثوم وعبدالوهاب, ثم ماتت الأغنية بعد موسم رواجها العظيم ـ ولكن القصير نسبياً ـ موتاً محققاً فكأنها لم تسرِ على شفاه الملايين سريان النار في الهشيم.

وعرفت الفنانة المصرية نعيمة عاكف, في بعض سنوات القرن الماضي, رواجاً ربما حسدتها عليه كرام الممثلات والمغنيات المصريات. أوتيت هذه الفنانة من القدرة على تحريك (شباك التذاكر) ما جعل هذا الشباك يضيق بالأيدي الممدودة إليه والمتحرقة للحصول على مقاعد.

بعد ذلك أسدل الستار على نعيمة عاكف فكأنها لم تظهر يوماً في فيلم, ولم تسجل يوماً أغنية.

ووهب الشاعر نزار قباني مع الجمهور حظاً لم يوهب لشاعر عربي معاصر فباعت دواوينه الدافئة, مع أنها مرتفعة الثمن, أكثر مما باعت دواوين المتنبي والمعري وشوقي والجواهري وبدوي الجبل وبقية الكبار من الشعراء العرب القدامى والمحدثين, رغم أن البضاعة الشعرية التي قدمها نزار قباني للجمهور لا يمكن أبدا أن ترقى, وبحسب معايير الجودة والاتقان ومعايير النقد الموضوعي البارد, إلى بضاعة هؤلاء الشعراء.

وتبيع في الوقت الراهن روائية عربية تقدم نفسها على أنها روائية تحمل جواز سفر فرنسيا (درءاً للشبهات), كما تقول, أكثر مما باع ويبيع روائي عربي كبير يحمل جائزة نوبل للآداب اسمه نجيب محفوظ, بالرغم من أنه باع كثيرا بالطبع.

ولكنها باعت أكثر منه لأنها دغدغت مشاعر, ونقرت على وتر لصوته وقع الدفء في القلوب, في حين أنه لا يمكن لأعمال هذه الكاتبة أن تصمد في مختبرات النقد, أو أن ترقى إلى مرتبة الأعمال الفنية الخالدة.

وكان إحسان عبدالقدوس أمير هذا الصنف من الكتّاب الرائجين, لدرجة أن (روز اليوسف) التي كانت تنشر رواياته مسلسلة في الستينيات من القرن الماضي, كانت أعدادها تنفد من السوق لحظة نزولها إليه. ولكن بالرغم من هذا الرواج العظيم, أوصد نقاد الأدب أبوابهم بوجه هذه الروايات ولم يعترفوا بها يوماً.

من الطبيعي أنه لا يمكن نظم قصيدة هجاء في الرواج, فالرواج مطلوب ولا يمكن نهي الكاتب عن السعي إليه, ولكن على هذا الكاتب ألا يذل القيم العليا للأدب والفن من أجل الحصول عليه. ومن مظاهر هذا الإذلال تعمد مخاطبة غرائز القارئ وما إلى ذلك من توسل وسائل تأباها مهنة وجدت لترقية النفس وخدمة الحقيقة.

فالكاتب مدعو لاستخدام قانون غير مكتوب, ولكن راسخ في الضمير الأدبي, يقضي بمراعاة موجبات الجودة الفنية والأخلاقية العالية, فإن لم يفعل جاءت أعماله ـ ولو راجت رواجا مؤقتا ـ هشة سريعة الذبول, تماما كتلك الوردة التي قال عنها الشاعر الفرنسي سولي بريدوم إنها ـ ويا للأسف! ـ لا تعيش إلا سحابة يوم واحد.

وجها لوجه

صلاح فضل وجهاد فاضل

الفلسفة لم تعد في قمة الهرم المعرفي ولكنها تركت مكانها للعلم
اللحاق بالعلم ليس من الصغر ولكن من المحطة التي وقف عندها
طبيعة الحياة هي التحول وطبيعة المعرفة هي التقدم
العلم دائماً ناقص لأن قانونه الأساسي هو “قانون الخطأ”
تاريخ النقد العربي الحديث والمعاصر يحتاج إلى أكثر من قراءة، ويحتمل أكثر من تفسير، فإلى جانب من يعتبر أن الخسارة الكبرى في واقع نقدنا اليوم هي أن التفكيكية ليس لها وكلاء قانونيون، أو وكلاء مقنعون ينهلون من ينابيعها الأجنبية لإنعاش حركتنا الأدبية، يوجد من يعتبر أن البنيوية السائدة في النقد العربي اليوم هي الأكسير الذي حوّل هذا النقد من حال الى حال وبالتالي فإن الخطاب النقدي العربي المعاصر هو في مستوى الخطاب النقدي العالمي.

بالإضافة إلى هاتين الفئتين، هناك فئة ثالثة، تمتاز بشعبيتها الواسعة، ترى أن ما يحسبه البنيويون، ومن إليهم من الألسنيين والتفكيكيين، غني في منطقة النقد، ما هو إلا فقر مدقع سببه غلبة العجمة، أو الغربة، على لسان أصحابه. فالمناهج البنيوية والألسنية والتفكيكية وما إليها، والمأخوذة أخذاً حرفياً أو مشوّهاً من صندوق النقد الدولي ـ إن جاز التعبير ـ مناهج متراجعة في بلد المقصد والاعتراض عليها لا ينبع من هذا السبب وحده، بل من باب العجز عن بيئتها وتوطينها عربياً، ولأن التطبيع معها لم يتم على الصورة المرتجاة، فإنها تبدو نموذجاً صارخاً لتبعية مثقفينا للغرب، وبالتالي لفقدان هؤلاء نقطة نظام أولية تتلخص بالقول إن ما هو صالح في بلد المنشأ ليس لزاماً أن يصلح في البلد المستورد لأسباب كثيرة منها الظروف والملابسات والمرجعيات، ومنها، قبل كل شيء، اختلاف الطقس والمناخ والإقليم.

للدكتور صلاح فضل أستاذ النقد الأدبي بجامعة عين شمس بالقاهرة، وصاحب مؤلفات عدة في (البنائية)، أو البنيوية كما شاع اسمها لاحقاً، رأي مختلف. فهو يرى أن البنيوية فتح جديد في علم النقد، وأنها تقدم وجهاً جديداً للمعرفة النقدية يختلف عمّا كانت عليه المعرفة النقدية فيما سلف: بفضلها تغيّر أفق النقد، كما تغيّرت لغته، وبفضلها أصبح مشروع النقد تأسيس علم الأدب، وبفضل البنيوية وما إليها يشهد النقد العربي في الوقت الراهن فترة ازدهار حقيقي.

ثمة إذن نظرتان مختلفتان إلى هذه المناهج النقدية المستحدثة، والحوار التالي الذي يدور بين الدكتور صلاح فضل، أحد الذين أرسوا هذه المناهج وأصّلوها في بلادنا، وجهاد فاضل الباحث والناقد اللبناني، يؤلف مواجهة بين هاتين النظرتين.

سوابق بنيوية

مَن يعد إلى تراثنا النقدي القديم يجد فيه بذوراً لما يسمّى اليوم بالبنيوية، عند الجرجاني مثلاً. إذا رجعنا على سبيل المثال إلى شرح الصفدي على لامية العجم للطغرائي، فإنك تجده يشرح كل بيت بطريقة تقسمه إلى عدة مستويات، هناك مَن يرى أن تطوير نقدنا المعاصر كان يمكن أن يتم عن طريق هذه البذور القديمة بالذات لا عن طريق اصطناع مناهج لا يتمثلها نقّادنا المعاصرون تمثّلاً دقيقاً، فهم منبهرون مستعجلون للوصول إلى مجموعة من النتائج. ومن أجل ذلك، تبحث هذه المناهج عبثاً عن مستقر لها فلا تجده إلا عند نقّاد لم يتمكنوا من أن يقيموا لهم جسوراً مع القارئ، أفلم يحن الوقت المناسب بعد لإعادة النظر والتصحيح?
– اسمح لي أولاً أن أجزئ هذا السؤال إلى شطرين: الشطر الأول لا يقل أهمية عن الشطر الثاني، الأول يتعلق بسؤال الجذور في النقد العربي القديم. عناصر يمكن أن نطلق عليها (سوابق بنيوية)، والشطر الثاني هو سؤال الإنجاز، هل استطاع النقد العربي الحديث أن يقدم منجزه المستقل عن المصادر الغربية؟

فيما يتعلق بالسؤال الأول، أنا لي فيه موقف حاسم ومحدد وشديد الوضوح، وهو أنه لا يمكن لناقد أن يبدع في ثقافة بينما هو مبتوت الجذور مع هذه الثقافة، عناصر النقد العربي القديم تتخلل خلايانا، تخترق شراييننا، تكوّن لون عيوننا، وهي غذاؤنا الذي تربّينا عليه، لكنها نشأت ضمن إطار فلسفي وثقافي ومعرفي محدود بطبيعة عصرها.

العصور القديمة من الواضح أنها كانت عصور ذات طابع ديني بالدرجة الأولى، أولوية الثقافة الدينية وهيمنتها هي التي تطغى على بقية فصول المعرفة، ومنجزات النقد العربي، كانت لا تخرج عن هذا الإطار في خدمة القرآن الكريم والأدب العربي القديم.

هناك بعض ملامح التشابه الجزئي بين عناصر الفكر البنيوي عندما يتحدث عن نظام العمل الأدبي، وبين نظرية النظم عند عبدالقاهر الجرجاني، كما تكشف عن ذلك دراسات نقدية حديثة، بداية بمندور ومروراً بكمال أبو ديب، وانتهاء بنقاد آخرين سجلوا ذلك.

لكنني اختلف جذرياً عنهم لأنني أعتقد أن هناك ما أطلق عليه النسق المعرفي. الفلسفة كانت في ذروة الهرم والفلسفة الدينية كانت كذلك في العصور القديمة لكن لم تعد تحتل ذروة الهرم المعرفي في العصر الحديث، أصبح العلم هو الذي يحتل هذه الذروة، والنظم غير النظام، والشعرية غير الإعجاز، وبذلك فإن نزعة القول بأنه لا جديد تحت الشمس، وبأن مكتشفات الفكر في النقد والجمال الحديث كان هناك سوابق لها، وسبق إليها المفكرون العرب، هي لون من إشباع حسّ الفخر القومي وإشباع الذات، تدليل الذات القومية، وتبريز الكسل المعرفي، مادام لدينا كل شيء، فلا حاجة بنا إذن إلى أن نتعرّف إلى الآخر ونلحق بركب العلم.

التشابهات التي يمكن أن نلحظها بين كل المناهج النقدية الحديثة ونظيراتها في إنجاز النقد العربي، واليوناني، أو غيره من أشكال النقد القديم، هي تشابهات جزئية، ولا تمسّ النظم المعرفية بأكملها، ولا النظريات التي لم تتخلق، ولم يكن لها أن تتخلق إلا في العصر الحديث بعد التقدم العلمي والإنساني والتاريخي.

هذه التشابهات الجزئية تجعلنا نستأنس مجرد استئناس، لكننا لا نستطيع أن نكتفي بها ونكفّ أو نتكاسل عن التواصل مع النظريات العلمية الحديثة، أيّاً كان مصدرها، في الشرق أو الغرب، لأنها إنسانية.

كيف نلحق بالعلم?

فيما يتصل بالجزء الثاني، هو وثيق الصلة بالجزء الأول، عندما أريد أن أنمّي البحث العلمي، البحث في العلوم الطبيعية، وكذلك في العلوم الإنسانية، عندما أريد أن أنمّي بحثاً، فمثلاً في الفلك الحديث، هل أعود إلى تجارب عباس بن فرناس في الطيران، أو أعود إلى آخر ما وصلت إليه مؤسسة (ناسا) في الفلك وغزو الفضاء، وانطلق منه؟
– ليس هناك أحمق يدعو إلى أن نبدأ العلم من الصفر، أو نبدأه مما وصل إليه الأوائل، ولكن اللحاق بقطار العلم دائماً، يكون في المحطة التي وقف عندها الآن.

معنى ذلك أنني لابد، فيما يتصل بنظريات اللغة، نظريات الاقتصاد، نظريات السياسة، نظريات الاجتماع، من العبث أن أتصوّر أن المنطلق الصحيح هو أن أبدأ من ابن خلدون، من الماوردي، أو من ابن جنّي، أو غير ذلك. لا أتجاهلهم إطلاقاً، إنما لكي ألحق بركب العلم، لابد أن ألحق به في المحطة التي يقف عندها الآن لكي أستطيع لا امتلاك الماضي العلمي وحسب، والاعتماد عليه، وإنما الانطلاق إلى المستقبل.

كان لابد – إذن – للمعرفة بالأدب والنقد أن تتواشج وتلتحق بهذا الركب العالمي.

ولكن السؤال يظل قائماً: هل سنظل أسرى له؟
– أستطيع أن أقول بثقة مطمئنة جداً، إن هناك نقّاداً عرباً بدأوا من حركة النقد العالمي يضيفون إليه الآن، سأذكر نموذجين على ذلك: نموذجاً لنقّاد يكتبون بلغات أوربية واعتُبروا في عداد النقاد العالميين لأن اللغة ليست حاجزاً بينهم وبين العالمية. ثلاثة أسماء: إدوارد سعيد، إيهاب حسني، مصطفى صفوان. هؤلاء نقّاد عرب مصريون وفلسطينيون يكتبون نقداً أدبياً رفيعاً من الدرجة الأولى يدخل في صميم النقد العالمي وإنجازاته المعاصرة.

وإلى جوار هؤلاء هناك، على الأقل، عشرة نقّاد عرب الآن يكتبون باللغة العربية إضافات ومنجزات حقيقية لو تُرجمت إلى اللغات الأجنبية لدخلت في الضمير الذي يؤرخ ويرصد التقدم العلمي في النقد الحديث.

مَن يقل إنه ليس لدينا إضافات لهذه التيارات، لم يقرأ النقد العربي، ولا يعرف أبعاده، ولا يستطيع أن يقيس حقيقة مدى إنجازه.

أنا أحسب – ولستُ في ذلك مغالياً ولا مخدوعاً ولا مخاتلاً – أن الخطاب النقدي العربي اليوم هو في مستوى الخطاب العالمي، وهو يضيف إليه أمرين: الأمر الأول هو طبيعة التكليف الذي يصنعه الناقد العربي لمنهجه، والتركيب الجديد الذي يقدمه بوعيه، مستخدماً ثلاثة منابع أساسية: المنبع الأول جذوره المتعمّقة في التراث الثقافي العربي مما يفتقده أي ناقد آخر في أي ثقافة أخرى. المنبع الثاني محصلة المعرفة العلمية في النقد العالمي كما يطلع عليها الناقد العربي الآن ويشترك فيها مع النقّاد العالميين.

المنبع الثالث احتكاكه بالإبداع والواقع الإبداعي المعاصر وممارسته النقد فيه لأنني أبدع في نقد الرواية بشكل متميز عندما أدرس رواية نجيب محفوظ أوعبدالرحمن منيف أو حنا مينة أو جمال الغيطاني أو بهاء طاهر أو إدوار الخراط أو صنع الله إبراهيم، بما لا يستطيع ناقد إنجليزي – مثلاً – أن يُبدع به عندما يدرس روائييه أو شعراءه، لأن هذا الواقع الإبداعي، هذه المحصلة ذاتها، تمدّني بغذاء ينمّي النظرية ويكيفها ويطبعها بطابعها العربي. فنظرية علمية وإنسانية، وتطبيقاتها على الأدب العربي، يجعل لها مذاقها الخاص، ولونها المتميز، وتحقق في النهاية، حصادها ومنجزها المتميز.

التبعية الثقافية

ما تصوّرونه على أنه غنى في حاضر النقد العربي بسبب البنيوية وما إليها يضعه كثيرون في خانة الفقر أو التبعية الثقافية للخارج. البنيوية متراجعة حتى في بلد المصدر، وفي بلادنا لو أجريت استفتاء بين المثقفين المتابعين لحركة النقد لكانت النتيجة أن الأكثرية المطلقة تمرّ بمثل هذا النقد البنيوي مرور الكرام لأنها لا تفهمه، وتترحّم على مرحلة النقد التأثري التي كان من أبطالها زكي مبارك في مصر ومارون عبود عندنا في لبنان؟
– أولاً مَن يقل إن النظريات الأدبية تتراجع، يسىء التشخيص لأنها تتوالد. هل الأم تتراجع أمام ابنتها? بالتقدير، الفتاة أجمل من أمها وأكثر رشاقة وفتنة، لكنها لا تمثّل تراجعاً للأم، تمثل نموّاً وامتداداً جميلاً لها، فهناك نظريات تتوالد ولا تتراجع.

هذه واحدة، الترحّم على العصر القديم، هذه صفة إنسانية وطبيعية وقد أشارك فيها، لكن الملاحظة الأساسية في هذه النقطة من الحوار تتمثّل في ما يلي: دائماً في كل العصور هناك نقّاد مبدعون، متمكّنون، أساتذة، يعرفون كيف يديرون نقدهم، يعرفون كيف يوجّهون خطابهم، يعرفون كيف يملكون قارئهم. وهناك نقّاد متلعثمون، ضعاف، تلامذة، من أنصاف المواهب، يسيئون إلى النقد، ويسيئون إلى القارئ، ويكادون يجعلونه يكره الأدب والنقد عندما يقرأهم.

في كل جيل دائماً نجد هذه المستويات، في جيل طه حسين، في جيل مندور، يمكن أن نعدّ خمسين ناقداً آخرين انتهت كتاباتهم إلى مزبلة التاريخ لأنهم لم يستطيعوا أن يتواصلوا، أن يملكوا رؤية مستقبلية، أن يملكوا حكمة، ولا بصيرة ولا نفاذا ولا جمال ولا سلاسة، ولا فتنة لغة محمد مندور.

بقي مندور لأنه يحقق هذه الشروط، ومات الآخرون، وكما يبقى لويس عوض وكما يبقى مارون عبود، وكما يبقى حسين مروة، وكل هذا الجيل المؤسس للخطاب النقدي العربي.

من النقاد البنيويين هناك تلامذة متلعثمون ضعاف لا يملكون موهبة وليست لديهم قدرة على التواصل، ولذلك لعنهم قرّاؤهم، ولعنهم مَن يقف معهم في الصف نفسه أيضاً لأنهم أساءوا إلينا، لكن لا تحاسب كتابات الكبار التي ستبقى، بجرائم هؤلاء الصغار.

لدينا، في مصر وفي البلاد العربية، نقّاد كبار يمارسون النقد الحداثي، ولديهم قدرة كبيرة وعالية جداً على التواصل مع جذورهم، لهم قرّاؤهم، لغتهم بالغة التشويق والجمال والامتلاء بالكثافة العلمية والذوق الفني في الآن ذاته. وأعتقد أن أعمال هؤلاء هي التي ستبقى. أما أعمال التلاميذ والمتدربين والمبتدئين وأنصاف الهواة ومَن لا يتقنون هذه الأشياء، من لا يفعلون سوى الطنطنة بالمصطلحات والتفاصح بالكلمات الغريبة، فهي هراء لا حياة له، لا نستطيع أن نحكم على تيّار النقد الحديث العربي المبدع الخلاّق بهذه الأعمال الرديئة.

والمصفاة الحاسمة في ذلك هي مصفاة التاريخ، وهو الذي أحتكم إليه وسوف يبقى التاريخ – في تقديري – نماذج عدة تكون محدودة جداً لا تزيد على عشرة بالمئة مما يكتبه النقّاد اليوم، لكنها هي التي تمثل ضمير النقد العربي في الفترة الراهنة وخميرته للفترة المستقبلة وهي التي تشكّل الجيل الجديد، وليس مسارنا عبثاً، ولا استراتيجيتنا خاطئة، ولا أننا يتعين علينا أن نتراجع.

أنا أطرح سؤالاً بسيطاً جداً في مواجهة هؤلاء الناقدين الذين تتحدث عنهم: ماذا كان يرضيكم من جيلنا أن يفعل نقدياً، هل كان يرضيكم أن نظل نكرر كالببغاوات مقولات مندور وغنيمي هلال ومحمود أمين العالم دون أن نضيف إليها وعياً ومعرفة أو علماً أو جديداً؟

أظننا لو فعلنا ذلك لم يكن يحق لنا أن نقدم جيلاً في عظمة تلامذة هؤلاء.

إذن طبيعة الحياة هي التحوّل، وطبيعة المعرفة هي التقدم ولا جدوى من سبّ التاريخ، ولا جدوى من لعن التطور، ولا جدوى من أن يطغى علينا الحنين إلى الماضي إلى الدرجة التي نعتبر فيها الحاضر خطأ كبيراً لم يكن يجب أن يُقترف.

أنا أعتقد أن النقد العربي المعاصر لم يكن على الإطلاق خطأ، ولم يكن إثماً، ولا جريمة في حق الثقافة العربية، بل ضخّ في عروقها دماً جديداً ونهجاً علمياً جديداً لم يلبث أن يتعدى النقد الأدبي إلى وجوه المعرفة الأخرى باللغة والمجتمع والاقتصاد والثقافة لكي يقدم طابع العصر في المعرفة الشاملة للإنسان وفي التحليل العلمي الدقيق لمنجزات هذا الإنسان.

لست أسير شعار محدد

هل يمكن أن نصنّف جهدكم النقدي في إطار البنيوية دون سواها، أم أن لكم مصادركم النقدية الأخرى؟
– أنا لم أرفع أيّ شعار، ولا أرضى بأن يُحصَر مجهودي النقدي في نطاق البنيوية لأن لي مركبي النقدي الخاص، بعض عناصره يستمدها من البنيويات المختلفة، وبعض عناصره الأخرى يستمدّها من رؤيتي للواقع الأدبي ودرجات امتصاصي من الثقافة العربية القديمة، وهو مركب لا أحب أن أضع عليه (تيكيت)، (هذه صناعة بنيوية)، لأنه مركب شديد التعقيد والثراء، ويختلف جوهرياً عن بنيوية أو ما بعد بنيوية أي ناقد في أي قطر عربي آخر.

الانبهار بالمنهج

مثقفون عرب كثيرون، منهم الطيب صالح، يرون أن هناك شيئاً يمكن تسميته بـ(الهوس بالمنهج).. انبهار بالمنهج، احتذاء المنهج احتذاءً آلياً أو ورعاً، لا بأس بالمنهج طبعاً، ولكن على ألاّ يستعبد صاحبه فيتحول إلى أسير أو عبد له، النقد هو المرونة والحرية وليس غير ذلك؟
– أحيلك يا سيدي لمقدمة كتاب لي أعتز به، وقد وافقني في ذلك مجموعة محكمين أساتذة كبار منحوه جائزة من أرفع الجوائز العربية هي جائزة البابطين للإبداع في نقد الشعر. هذا الكتاب هو (أساليب الشعرية المعاصرة). في مقدمة هذا الكتاب قدمت الصورة التالية: قلت إنني سأحاول أن أشكّل نظرية في الشعرية، واضعاً لها خطوطها المنهجية الدقيقة، وسأحاول أن أعرض هذه النظرية على الإبداع الشعري العربي لكي أعدّلها به وأختبرها في ضوئه، وأصنّف تياراته وأساليبه طبقاً لها. لكنني أستحضر دائماً أن العمل الشعري مثل العصفور، وأنك إذا أردت أن تحبسه في منهج، فلابد أن يكون هذا المنهج وسيعاً مثل القفص، حتى يستطيع أن يتنفس العصفور ويتحرّك، إذ لو أطبقت عليه بمنهج ضيق، لخنقته، وعندما ستنظر إلى جثته ميتة فسوف لا يفيدك المنهج في شيء لبعث الحياة فيه لكي يطير رشيقاً مرة أخرى.

أقصد بذلك شيئاً بالغ الأهمية، وهو مراعاة المسافة دائماً بين المنهج والتطبيق، وممارسة أكبر قدر من الحرية عند تطبيق المنهج لكي تستطيع أن تعدّله وأن تضيف إليه وتغيّره في ضوء الإبداع، إن لم تتمتع بهذا الهامش من الحرية الخلاّقة التي تميز الناقد الكبير، فلست سوى تلميذ متخلّف في صف دراسي يمارس تطبيقات تافهة لا قيمة لها.

وليس هناك منهج واحد وحيد بالطبع؟
– إطلاقاً، بل أكاد أقول إن لكل منّا بناءه المنهجي ورؤيته وخلفيته المعرفية، وأدواته، واستراتيجيته في التطبيق، ولا يجدر أبداً أن تعمّم حكماً لأن الطيب صالح على طيبته وصلاحه الجميلين، وعلى إبداعه الروائي الرائق الجميل، يراقب الأشياء من الخارج تماماً، لا يعرف مكابدة الممارسة النقدية، كيف ينبغي لك ألاّ تترك لهواك العنان، كيف ينبغي لك أن تتمثل القانون، المعيار، دون أن تطلق أحكاماً قاطعة، وأن تكون بالدرجة نفسها التي تلتزم فيها بمنظومة من المعايير الموضوعية والجمالية الخلاّقة المرتبطة بنمو الفكر النقدي من المرونة القضائية بحيث يصبح لكل حالة ملابساتها، ولكل حادثة ظروفها، ولكل حكم قضائي حيثياته الخاصة.

عود إلى صورة القانون لأنها هي أقرب ما تكون إلى صورة المنهج.

إن النقد – في رأي الكثيرين – علم ناقص، مهما تطوّرت مناهجه وإجراءاته وأساليبه، فهل أنت من هذا الرأي؟
– أنا أؤكد هذا الرأي لأكثر من سبب، السبب الأول أن النقد يريد أن يجمع بين العلم والفن، وكل أنواع العلم علم ناقص لأن القانون الأساسي في العلم هو قانون الخطأ.

هناك ظواهر طبيعية نفترض قانوناً يفسّرها الآن، ثم لا يلبث الزمن أن يكشف لنا نقص هذا القانون. نقيم فرضاً آخر للقانون، لكي نتفادى النقص، وهكذا…

العلم دائماً ناقص، والجانب العلمي في النقد يجعله ساعياً نحو تصويب أخطائه باستمرار.

سبب آخر مرتبط بالجانب الفني فيه، أن النقد يقع في ثلاث دوائر: دائرة النظرية ودائرة المنهج ودائرة الممارسة التطبيقية على النصوص الفعلية.

النظرية هي الإطار الفلسفي، والمنهج هو الجهاز المصطلحي والمفاهيمي، والممارسة على النصوص النقدية.

بما أن هذه النصوص الإبداعية في متجددة دائماً،فإن الحصيلة الشعرية اليوم تختلف عمّا كانت منذ خمسين عاماً، وهي ستختلف بعد خمسين عاماً، مما هي عليه اليوم.. وكذلك الرواية، والمسرحية، والكتابات الأخرى، والجماليات البصرية الجديدة، فلابد للنقد من أن يتجدد بتجدد موضوعه، ولابد أن يستكمل نواقصه باستكمال تغطية الجديد في مجال ومادة دراساته، فإنه ناقص، هذه شهادة له، وليست عليه.

عندما يكون نقد فلسفي، دوجماطيقي، أيديولوجي، ينحصر في نظرية علمية جاهزة لا تقبل الحركة ولا تخضع للتطوّر ولا تستجيب لمتغيّرات التاريخ، وتتوهّم أنها كلية، وأنها كاملة، وأنها غير ناقصة.

ليست دعوى الكمال أو الاكتمال سوى وهم الضعف واللاعلمية. وأنا دائماً أتمنى أن يكون النقد أبعد ما يكون عن دعوى الكمال.

بل إن النقد الأدبي يرتبط بأساسه الجذري في الوعي، وهو الوعي النقدي ذاته، والوعي النقدي بطبيعته مضاد للكمال، هو مضاد لدعوى الاكتمال، ووظيفة النقد أن ينبهنا دائماً إلى أخطائنا، ووظيفة النقد أن يشحذ فينا القدرة على تصويب هذه الأخطاء باستمرار.

تحدّثت مرة مع الأستاذ محمود أمين العالم عن البنيوية، كان رأيه في هذه النظرية رأياً سلبياً، قال لي إن تسليط البنيوية على قصيدة أو على مجموعة شعرية قد يكون شبيهاً بتسليط دبابة على حقل زهور.
– أنا أذكر أن هذا التشبيه ذاته استخدمه المفكّر والناقد الفرنسي الشهير جريماس في مناقشة رسالة الدكتوراه التي تقدم بها الباحث والناقد الدكتور عبدالكريم حسن عن شعر السياب. قال له غريماس أن شعر السياب مثل الحديقة الصغيرة الجميلة، وأنت بدلاً من أن تحرثها بيدك، بفأسك، سلّطت عليها بلدوزرا أو دبابة كبيرة لكي تحرث حقلاً صغيراً.

أنا أظن أن الموقفين مختلفان لأسباب عدة، السبب الأول هو إن شعر السياب ليس حقلاً صغيراً، قد يكون في نظر ناقد فرنسي حقلاً صغيراً، في رأيي، أنه من أنضج وأجمل الغابات، وليس مجرد حديقة زهور صغيرة، بل غابات مازالت بحاجة إلى الكشف وإلى الجولات بمختلف الأنواع، ليس لقطع الأشجار، وليس لتغريبها، وإنما لقياسها وتحليلها، النقد بطبيعته لا يقتلع نباتاً أخضر، وإلاّ لم يعد نقداً. لو قلنا: تسليط أكبر قدر من الأشعة النافذة التي تخترق العظام لكي تصوّر ما وراءها، لكان التشبيه أقوى، وليس هناك مَن يعيب طبيباً يريد أن يكتشف أدق أسرار الجسم بحجة أن الجسم لا يحتمل فعل هذا الطبيب.

النقد البنيوي وما بعده يريد أن ينمّي جهازه المعرفي، وأدواته التحليلية، لكي يتعمّق في بحث كل النظم: اللغة والإشارات الجمالية والثقافية في النصوص الأدبية.

أعتقد أن إمعانه في ذلك لا يفسده إلا شيء واحد: ضعف الناقد عن الربط بين المجالات المختلفة، لكن عندما يمتلك الناقد المنهج والحسّ المعرفي والقدرة على تقديم الرؤية الكلية وصوغها بلغة جميلة، في نهاية التحليل، فإننا سوف نستبدل بصورة الدبابة المدمّرة صورة الأشعة الكاشفة التي تزيدنا استمتاعاً بالنصوص الجمالية ومعرفة بتكوينها.

ربما تكون هناك بعض أشكال اللذة في المقاربة النصيّة التي قد يفسدها التحليل، لكن – في تقديري – أن المعرفة لها اللذة العظمى، وأن متعة الجهد لا يمكن أن تضاهي متعة المعرفة.

فنون

آفاق التشكيل اللبناني: ذاكرة الألوان من 1915 إلى 1965
بعنوان “التشكيل اللبناني” اقامت وزارة الثقافة والتعليم العالي في لبنان معرضا استعادياً لفناني حقبة 1915 1965 في قاعة قصر الأونسكو ببيروت. وقد شكل هذا المعرض التفاتة ما نحو ذلك الكم الهائل من الأعمال الفنية التي سبق للدولة اللبنانية أن اقتنتها من الفنانين خلال المعارض التي كانت وزارة التربية والفنون الجميلة في لبنان “هكذا كان اسمها الرسمي” تقيمها دورياً في كل ربيع.

وبالرغم من الجهود المضنية التي قامت بها اللجنة المكلفة اقامة هذا المعرض من أجل أن يجد فنانو تلك الحقبة جميعا مكانا لهم في هذه التظاهرة الاستعادية، فان فقدان أعمال الكثيرين منهم، او تشوهها، أو عدم الفراغ من ترميمها، قد حال دون ذلك. ولكن المعرض كان مناسبة لتعريف الأجيال الجديدة إنجازات رواد النهضة الفنية اللبنانية.

ومن المعروف أن وزارة الثقافة والتعليم العالي تملك مجموعة قيمة من الأعمال التشكيلية التي تحمل تواقيع فنانين ومبدعين لبنانيين. وهذه المجموعة تغطي حقبة طويلة من تاريخ التشكيل اللباني، رسماً ونحتاً، تبدأ مع أعمال لجبران خليل جبران وجورج قرم وعمر الأنسي ومصطفى فروخ، ولا تنتهي باعتبارها في اغتناء متواصل. ولأنه لحق بهذه المجموعة إهمال كبير، فقد أطلقت وزارة الثقافة منذ عدة أشهر مشروعاً لترميم مجموعتها التشكيلية. وقد قطع هذا المشروع شوطا طويلا، وهو لايزال مستمراً. ولهذا السبب اكتفت اللجنة المكلفة تنظيم هذا المعرض بثلاث لوحات من أعمال كل فنان وكل ذلك أعطى المعرض صورة بانورامية عن فناني تلك الحقبة وإن كان بعض النقاد قد أخذ على المعروض من أعمال بعض الفنانين أنه لا يمثل كل التمثيل خط تطورهم.

على أن الأمر انتهى باللجنة إلى اختيار ما اختارته من لوحات من باب اقتناعها بأن أفضل الممكن خير من سواه، ومن باب اقتناعها أيضا بأن هذا المعرض الاستعادي الذي ختم من الناحية الواقعية نشاطات بيروت عاصمة ثقافية لعام 1999، ليس سوى خطوة أولى نحو مسيرة طويلة تهدف إلى حفظ التراث التشكيلي اللبناني والتعريف به.

والواقع أن هذه المجموعة النادرة كان يمكن لها أن تشكل أجمل نواة لمتحف وطني للفن الحديث. ولكن مشاريع إقامة هذا المتحف قد تعثرت دائما لأسباب مختلفة منها مالية ومنها عدم اهتمام الدولة اهتماما جديا، وفي حقب مختلفة، بالشأن الثقافي. ولكن الذين شاهدوا هذا المعرض أشادوا بالقيمة الفنية العالية للأعمال المعروضة. وقد وصف أحد النقاد الفنيين ما رأى بأنه “مجموعة نادرة وقيمة” طاولتها مع الأسف سياسة الإهمال وعدم الصيانة، إضافة إلى ما جنته عليها الحرب وما خلفته من نتائج كارثية أدت كلها إلى تدمير القسم المهم منها. كما أن يد السرقة امتدت لتطاول قسماً آخر يصعب إحصاؤه الآن.

وقد علقت في المعرض أعمال أساسية لفريد عبود، نقولا نمار، شفيق عبود، بول غيراغوسيان، إيلى كنعان، منير نجم، إيفيت أشقر، عارف الريس، رفيق شرف، حسين ماضي، حسن الجوني، هيلين الخال، جان خليفة، سعيد إلياس عقل، هاروت طوروسيان وسواهم.

أما الذين غابت، أو غيبت، أعمالهم فكانوا كثيرين أيضا. فلم يكن هناك أعمال لسعدي سينوي، بيبي زغبي، فيليب موراني، بوربس نوفيكوف، علي قبيسي، فريد عواد، اسادور، هرير، عاصم ستيتيه، وسواهم، برغم أن الدولة اللبنانية كانت اشترت أعمالا لهؤلاء الفنانين وكان من المفروض أن تكون ضمن جردة الوزارة.

وبالرغم من هذا النقص، فإن المعرض شكل استعادة لذاكرة فنية مهمة للوطن، وإطلالة جيدة على قرن جديد. وقد عبر فنانون كثيرون معاصرون شاهدوا المعرض عن حلمهم ببناء متحف وطني للفن الحديث، وهو حلم طالما راود أسلافهم الفنانين الراحلين.

ملف خاص

جهاد فاضل ونقولا زيادة
مي زيادة: الهوية والانتماء
كما شغلت الباحثين العرب لفترة طويل هوية الأدب الذي كتبه أدباؤنا باللغة الأجنبية, وهل هو عربي أم أجنبي, تشغلهم في الوقت الراهن هوية الأدباء الذين نزحوا من لبنان وسائر بلاد الشام إلى مصر في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين, ومنهم جرجي زيدان ويعقوب صروف وفارس نمر وفرح انطون وخليل مطران ومي زيادة, فهل هم (أدباء شوام) هاجروا إلى مصر, كما يقول الباحثون اللبنانيون والسوريون عادة, أم هم أدباء مصريون من أصول شامية, كما يقول الباحثون المصريون؟

السؤال حول هوية هؤلاء الأدباء يتجدد بين وقت وآخر. وهو يتخذ صورة الجدل الهادئ أو البارد حينا, والحار والعصبي حينا آخر. فاللبنانيون انطلاقا من قناعة ثابتة لديهم بأن بلدهم هو بلد الإشعاع الثقافي والحضاري, وأنه أشع في إطار جغرافيته المعروفة كما أشع في بلدان الانتشار, كما يسمونها, أو في المهاجر ومنها المهجر المصري, يرون أن كل الأدباء اللبنانيين الذين هاجروا من لبنان وإن قضوا حياتهم خارجه, حكمهم حكم اللبنانيين المقيمين, وأن الأدب الذي كتبوه في تلك البلدان, ولو باللغة الأجنبية, لا يمكن أن يُحسب إلا على الأدب اللبناني وحده.

الباحثون المصريون يصفون وجهة النظر هذه بالرومانسية, ويرون أنها لا تحيط بمسألة هوية هؤلاء الأدباء الإحاطة العلمية والموضوعية اللازمة. فالأدباء المصريون, وحتى المتحدرون منهم من أصول غير مصرية أو أجنبية, كمن ذكرنا آنفاً أو لم نذكر, كولي الدين يكن, وهو من أصول تركية وشركسية, هم أدباء مصريون صهرتهم مصر في بوتقتها فتحولوا مع الوقت إلى مصريين صميمين. وبلسان هؤلاء الباحثين قال مرة مدير تحرير (الأهرام) صلاح الدين حافظ في احتفال أقامه اللبنانيون في قرية بحشوش احياء لذكرى رئيس تحرير (الأهرام) الراحل داود بركات: (اسمحوا لنا أن ننازعكم في الراحل الكريم, فلنا فيه مثل ما لكم, بل ربما يكون ما لنا فيه أكثر مما لكم. فإذا كان لبنان قد منحه المولد والصبا والتعليم, فقد منحته مصر الشباب والرجولة والنضج والفكر).

وقد تجدد السؤال في السنوات الأخيرة حول هوية الآنسة مي زيادة التي اشتهرت كأديبة كما اشتهرت كظاهرة أدبية واجتماعية ألهمت, كما أوهمت, الكثير من رواد صالونها الأدبي الذي كان يُعقد مساء كل يوم ثلاثاء في منزلها المجاور لمبنى جريدة الأهرام القديم. فهل الأديبة الآنسة مي لبنانية أم مصرية؟

من أجل الفصل في هذا السؤال يحسن العودة بداية إلى خطوط أساسية في سيرة مي. كانت فلسطين أول أرض مس جسم مي (رحمها الله)ترابها. ولدت في مدينة الناصرة بفلسطين عام 1886 لأب لبناني كان يتعاطى مهنة التدريس هو الياس زخور زيادة, ولأم سورية الأصل فلسطينية المولد هي نزهة معمر. وقد عاشت مي في الناصرة ثلاثة عشر عاما انتقلت بعدها إلى لبنان في صيف 1899 للدراسة في مدرسة عينطورة ثم في مدرسة الراهبات اللعازاريات في بيروت لتعود بعد ذلك إلى الناصرة عام 1905. بعد ذلك بسنتين غادرت الأسرة فلسطين نهائيا إلى مصر. وقد كان من الطبيعي لمي, التي ستقضي عمرها لاحقا سجينة علاقات رومانسية وعذرية أن تتحسر لفراق مطارح صباها في فلسطين ولبنان على السواء, فتكتب, شعراً ونثراً, نصوصاً تترجم هذا التحسر, ومنها هذه الكلمات المملوءة بالحب والشوق لمدينة الناصرة: (إيه يا ناصرة! لن أنساكِ ما دمت حية. سأعيش دوماً تلك الهنيهات العذبة التي قضيتها في كنف منازلك الصامتة. سأحفظ في نفسي الفتية ذكرى هتافات قلبي وخلجات أعماقي).

وكما تحسرت لفراق الناصرة تحسرت لفراق لبنان, وتحمل قصيدة لها بالفرنسية من ديوانها (ازهار حلم) عاطفة صادقة إزاء لبنان وإزاء مصر في الوقت عينه. في هذه القصيدة وعنوانها (وداع لبنان), تتحدث مي عن لبنان فتصفه حيناً بالحلم, وحينا بالوطن: (خمودا يا حزني! ووداعاً يا وطني!) كما تصف مصر أيضا بأنها وطنها فتقول حرفياً: (إن مصر موطني تناديني بصوت عميق القرار). فمي إذن ممزقة بين ديار عربية مختلفة.

وإذا كانت قد عبرت عن هذا التمزق شعراً, فقد عبرت عنه نثراً أىضاً. فبواسطة النثر الذي يفترض أن يتضمن وعياً أكثر من الوعي الذي يتضمنه الشعر عادة, كتبت (ولدت في بلد, وأبي من بلد, وأمي من بلد, وسكني في بلد, وأشباح نفسي تنتقل من بلد إلى بلد, فلأي هذه البلدان انتمي, وعن أي هذه البلدان أدافع؟).

في مصر عاشت مي مع والديها بقية حياتها. وفي أرض مصر يثوي رفاتها ورفاة والديها. وإذا كانت مرحلتها الفلسطينية خمسة عشر عاما, ومرحلتها اللبنانية ستة أعوام, فقد عاشت في مصر منذ عام 1907 حتى رحيلها الحزين عام 1941 بصورة مستمرة. فمرحلتها المصرية تبلغ إذن 34 عاما وهبتها مصر خلالها جنسيتها كما وهبتها مكانتها الأدبية والثقافية التي استقرت لها في الأدب العربي المعاصر.

لاشك أن لمي علاقة خاصة بلبنان. والدها لبناني, وأقرباؤها مقيمون في شحتول إحدى قرى جبل لبنان. وفي لبنان درست وأول حب تفتح له قلبها كان للبناني من أقربائها. وإلى أحد أبناء عمومتها خطبت فترة. ومع لبناني مهاجر مثلها ارتبطت بصلة عاطفية لمدة عشرين عاما هو جبران خليل جبران الذي حلمت به حبيبا وزوجاً.

فمن الطبيعي أن يظل جرحها اللبناني نازفاً. ولكن من الطبيعي أيضاً أن يكون لها تفاعلها الحي والخصب مع بيئتها المصرية الاجتماعية والأدبية.

في هذه البيئة بالذات عاشت مي زمان شبابها ونضجها. وفي هذه البيئة نمت وأعطت وازدهرت. إنها إذن نبتة مباركة من مشتل, كثيرا ما ازدهر أبناؤه خارجه.

لم تكن القاهرة في الثلث الأول من القرن العشرين هي القاهرة التي نعرفها اليوم. فقد كان الطابع الكوسموبوليتي هو الطابع الغالب عليها كمدينة شبه أوربية. فإن سار المرء في شوارعها سمع لغات أجنبية كما لمس نفوذا للأجانب. وقد اختلطت مي بهذه البيئة القاهرية الأجنبية, كما اختلطت ببيئتها المصرية الصرفة. فهي وليدة مناخ ثقافي واجتماعي ملون بألوان محلية وألوان اجنبية. وعلينا ألا نستهين باللون المصري الوطني في تكوين مي. وقد لاحظت هي ذلك عندما كتبت (الهلال/فبراير 1930), إن أهم ما أثر في حياتها القرآن الكريم بفصاحته وبلاغته الرائعة, وقيام الحركة الوطنية في مصر. (من هنا كانت يقظتي الأدبية الصحيحة والخلق الجديد الذي امدتني به تلك الحركة بروحها).

التحقت مي في القاهرة بجامعتها العريقة, واقتبست من أوساطها الأدبية التي اتصلت بها فصاحة اللسان وجمال البيان. أهداها لطفي السيد نسخة من القرآن الكريم ومجموعة من كتب التراث. وإذا كان تعبيرها في البداية باللغة الأجنبية (لأن دروسها ومطالعاتها كانت بهذه اللغة), فقد تحولت لاحقاً, وبسبب (يقظة الدم العربي الجاري في عروقها), كما ذكرت مرة, وتحت تأثير حركة الأدب والفكر والثقافة في مصر, إلى أديبة مرموقة. ولاشك أنه كان لصلتها بأدباء زمانها, وبخاصة لهذا الصالون الأدبي الذي أنشأته, الأثر الكبير في نمو شخصيتها الأدبية, وفي هذه الهالة الرومانسية التي استقرت في الوجدان العربي.

عندما قدمت مي إلى مصر عام 1907 وهي في مقتبل العمر (21 سنة) كان زادها الثقافي محدوداً جداً وما كانت قد كتبته سواء في لبنان أو في فلسطين كان عبارة عن نصوص لا تحمل للأدب والشعر سوى دفء الشباب والوعد بخصوبة آتية. أما مصر فكانت حاضنتها الروحية والمعرفية التي نقلتها من حال إلى حال والتي صنعت منها الأديبة والظاهرة معاً. ولو أنها استقرت في لبنان ولم تغادره إلى مصر, لما كانت أكثر من أديبة محلية لا أكثر ولا أقل, مثلها في ذلك مثل جوليا طعمة دمشقية وسلمى صائغ ونجلا أبي اللمع وسواهن ممن لم يسمع بهن أحد خارج الإطار اللبناني. فمصر إذن هي التي فتحت أبواب التاريخ والمجد لهذه الأديبة التي عاشت في أكثر من دار من ديار العرب, ولكنها إلى دار مصر جديرة بأن تنسب, لا إلى أية دار أخرى, مع الإشارة إلى أن اللون اللبناني في شخصيتها كان جزءا جوهريا في نسيجها الذاتي والإنساني ومن سحرها وحلاوتها وفتونها. ولكن تبقى مصر هي التي رعتها وحضنتها ووهبتها صفحتها الجميلة في كتابنا الأدبي المعاصر, ودون مصر لم تكن ما كانت.

ترتبط مصر في ذاكرة مي, كما في سيرتها, بالخصب والحدب والعناية, في حين لا يرتبط لبنان بمثل هذه المعاني التي كانت له في قلبها في بدايات حياتها. فالمحنة الرهيبة التي تجرعتها في سنواتها الأخيرة, كانت محنة لبنانية في جوهرها, محنة سببها لها لبنانيون. فبعد وفاة والديها, ووفاة حلمها جبران خليل جبران, أصيبت مي باضطراب عقلي لامس حدود الجنون, دفعها إلى العزلة وإلى الاستنجاد بابن عم لها. ولكن ابن عمها هذا الذي انتزع منها وكالة عامة على أملاكها واستحصل على حكم حجر عليها, اصطحبها معه إلى لبنان حيث أودعها مستشفى العصفورية.

وفي لبنان هب نفر من أحراره للدفاع عنها, فأمكنهم انتزاعها من مستشفى المجانين لتمضي فترة نقاهة في ربوعه تعود بعدها إلى مصر لتموت فيها وتدفن إلى جوار والديها.

من أجل إدراك حجم المرارة التي اجتاحت نفس هذه الأديبة الحساسة في تلك الفترة العصيبة, نعود إلى بعض ما كتبته وهي في حمى مستشفى العصفورية تنكر أن تكون مستحقة للمصير المأساوي الذي آلت إليه. تقول مي: (أين لبنان الذي طويت ضلوعي على حبه, لبنان الذي تغنيت في الجرائد والكتب والمجلات ومن فوق المنابر بجماله, بجباله, ببنيه. لبنان الذي ما حلت به محنة إلا انهمر الدمع من عيني. لبنان هذا لم يوجد فيه واحد يبكي على محنتي التي انطوت على محن كثيرة)؟

وتضيف: (تلك هي مكافأة لبنان لي: إهمال مفجع وتغاضٍ مخجل عن أحط مؤامرة جاءت بي من مصر وألقتني مدة سبعة شهور في العصفورية أتفرج في النهار على مواكب النساء العاريات وأسمع ألفاظا ما كنت أعلم أنها موجودة, وأن في البشر من يتلفظ بها. سبعة أشهر قضيتها في العصفورية في لبنان على هذه الحال, وفي تلك الغمرة من الألم واليأس والعذاب, دون أن يهتز عرق بالشفقة أو لسان بالسؤال. ألا اسمحوا لي أن أقول بكل ألم وبكل أسف وبكل خجل أيضا, إني كنت أردد وأنا على تلك الحال, في كل يوم وفي كل ساعة: لعنة الله على لبنان).

والسؤال لايزال قائماً: هل يتبع المرء هوية البلد الذي يمنحه الولادة والصبا والتعليم, أم يتبع هوية البلد الذي يمنحه الشباب والنضج والفكر والثقافة والازدهار؟

هل المرء حيث يولد؟ أم حيث يوجد؟ حيث ينبت؟ أم حيث يثبت؟, كما كان يقول بديع الزماني الهمذاني.

أغلب الظن أن المرء حيث يوجد لا حيث يولد, حيث يثبت لا حيث ينبت. واستناداً إلى هذا المعيار الأقرب إلى العقل والمنطق من أي معيار آخر, تكون مي زيادة المولودة في الناصرة بفلسطين من أب لبناني وأم سورية الأصل, مصرية كأي مصري آخر, في مصر عاشت ووجدت وثبتت, ودون مصر لم تكن هذه العصفورة الشجية النضرة في بستان أدبنا وفي مخيلة الأدباء الكبار الذين ألهمتهم كما أوهمتهم.

شعلة الإبداع في كتابات “النابغة مي”
بقلم: سلمى الحفار الكزبري

تعارف معاصرو مي زيادة ـ وجلّهم من أعلام النهضة العربية الحديثة ـ على تلقيبها (بالنابغة مي) منذ ظهورها في القاهرة كاتبة مقالة محلية, وشاعرة باللغة الفرنسية, وخطيبة ساحرة عندما كُلفت إلقاء كلمة جبران خليل جبران مساء الاحتفال بشاعر القطرين خليل مطران الذي جرى في دار الأوبرا بتاريخ 24/4/1923.

حضر تلك الحفلة كبار الكتاب والشعراء العرب فوقفت على المنبر وألقت كلمة جبران التي أرسلها من الولايات المتحدة الأمريكية, ثم عقبت عليها بخطبة فاستحوذت على إعجاب الحاضرين بوقفتها الرصينة, ولفظها العربي الناصع, وإشراق بيانها, وصوتها العذب. لنقرأ ما كتبه عميد الأدب طه حسين في مذكراته عن مي في ذلك الاحتفال الكبير إذ كان يومئذ طالبا في الجامعة:

(..كان الشعراء ينشدون في الاحتفال الشعر, وكان الخطباء سيلقون فيه الخطب فاعتذر الفتى إلى أستاذه في الجامعة عن عدم حضور الدرس, وآثر شهود ذلك الحفل. لم يرض الفتى عن شيء مما سمع إلا صوتا واحدا سمعه فاضطرب له اضطرابا شديدا أرق له ليلته تلك. كان الصوت نحيلاً, وكان عذباً رائعاً, وكان لا يبلغ السمع حتى ينفذ منه في خفة إلى القلب فيفعل فيه الأفاعيل, وكان صوت الآنسة مي التي كانت تتحدث إلى جمهور من الناس للمرة الأولى).(1).

معروف أنها نشرت ديوان شعر لها باللغة الفرنسية عنوانه: (أزاهير حلم) عام 1911 لفت انتباه الصفوة من القراء في القاهرة حتى أن خليل مطران كتب لها عنه مقرظا شاعريتها, ووقعته باسم: (إيزيس كوبيا) منتحلة اسم الإلهة المصرية القديمة إيزيس, وكنيسة (كوبيا) اللاتينية التي تعني كنيتها هي: (زيادة), ولكن ذكاءها, وبعد نظرها حولا إنتاجها إلى اللغة العربية فقرأت القرآن الكريم, ودرست آداب اللغة وتاريخها والفلسفة في الجامعة المصرية لوجودها في بيئة ناهضة, وبين كبار كتاب اللغة العربية وشعرائها. جمعتهم مي في منزل والديها في ندوة أسبوعية عرفت باسم (ندوة الثلاثاء) التي استمرت عشرين عاما, واستقطبت صفوة الأدباء والشعراء أمثال أحمد لطفي السيد (أستاذ الجيل), وطه حسين, وعباس محمود العقاد, والشيخ مصطفى عبدالرازق, وولي الدين يكن الأديب والشاعر المرهف الذي ألهمته ندوتها الراقية هذين البيتين من قصيدة مطولة هما:

يا مي بين الأقلام والكتب

كالشمس بين الأقمار والشهب

أحييت عهد القريض والأدب

جددت للأدب رونق العرب

إن الذين أدمنوا على (ندوة الثلاثاء) كثيرون ومعروفون في الأوساط العلمية والثقافية والشعرية منهم خليل مطران, وأنطون الجميل, ويعقوب صروف, وأحمد شوقي الذي وصف ميا وحديثها العذب في ندوتها فأنشد هذه الأبيات:

أسائل نفسي عما سباني

أحُسن الخلق أم حسن البيان

رأيت تنافس الحسنين فيها

كأنهما لمية عاشقان

إذا نطقت صبا عقلي إليها

وإن بسمت إليّ صبا جناني

ومنهم كذلك مصطفى صادق الرافعي الذي أحبها وأوحت إليه روائعه: (أوراق الورد) و(السحاب الأحمر) و(رسائل الاحزان), ولكنه كان حبا من طرف واحد إذ كتب إليها عدة رسائل نشرتها في كتابي (مي زيادة وأعلام عصرها: رسائل مخطوطة لم تنشر 1912 ـ 1940) فيها من العتاب, ومن سوء التفاهم الشيء الكثير, حتى أنه استهل إحدى رسائله المؤرخة في 7/7/1923 بهذه الأبيات:

يا نسمة في ضفاف النيل سارية

مسرى التحية من ناء إلى نائي

يا ليت رياك مست قلب هاجرتي

فتشعريه بمعنى رقة الماء

ليست تحب سوى أن لا تحب فما

أعصى الدوا إن يكن من حبها دائي!

احتفظت مي بمركزها المرموق بين هؤلاء الرجال الكبار إذ كانت أصغرهم سناً, لشدة صونها لنفسها, واحترامها لذاتها, وكان طبيعيا أن يحبوها حباً أبوياً, ويعجبوا بنبوغها, ويتغزل بعضهم بمزاياها وثقافتها وبراعتها بإدارة الحديث, وبكل ما كانت تنشره من مقالات وأبحاث وخطب في أمهات الصحف المصرية والمجلات كالأهرام, والمحروسة, والزهور, والهلال ,والمقتطف, تنضح منها شعلة الإبداع.

من رسائل هؤلاء الأعلام الذين عاصروها إليها, ومقالاتهم: ومن الضيوف العرب والأجانب الذين كانوا يؤمون القاهرة, وقفنا على نبوغها في كل ما كتبت وفعلت, وأعطت من ذوب قلبها وعصارة ثقافتها الشاملة لإتقانها خمس لغات, واطلاعها على ثقافات الأمم القديمة والحديثة, إلى جانب تمكنها من العربية, وغيرتها عليها والدعوة إلى التحدث بها وإتقانها لأنها لغة جميلة, ثرية, من أقدم لغات العالم وأكثرها انتشاراً.

لقد كُرمت مي في مصر وفي لبنان وسوريا إبان زياراتها لها أحسن تكريم, عن جدارة بالتكريم, حيث برزت خطيبة بارعة ولكن إغراقها في الأحزان, بعد وفاة أبيها الياس زيادة عام 1928 صاحب المحروسة, وجبران خليل جبران عام 1931 الذي أحبته وتراسلا معا طوال عشرين عاما من غير أن يلتقيا, ثم وفاة أمها نزهة معمر عام 1932, ذلك الإغراق بالحزن أثر تأثيرا سيئا في صحتها النفسية وبدلا من أن تسلو وتعود إلى رواد ندوتها, وتستجيب لإلحاح أصدقائها عليها بالخروج من العزلة أمثال طه حسين وعباس محمود العقاد, مرضت لتكاثر ذويها على إزعاجها لمقاسمتها ما تملك, وكانت مأساتها المفجعة بتآمرهم عليها الذي أوصلها إلى مصح الأمراض العقلية في بيروت سنة 1936 وهي في كامل قواها العقلية! والدليل على ذلك إخراجها من ذلك المصح بفضل أصدقائها المنقذين منهم: مارون غانم الذي كان أول من اقتحم المصح بعد أن ضاعت منه, ولم يجدها في مصر ولا في أوربا ومنهم فيلسوف الفريكة أمين الريحاني, وفؤاد حبيش صاحب المكشوف وآل الجزائري. ومع أنها كانت إذ ذاك في حالة صحية متردية عالجوها في مستشفى الدكتور ربيز في بيروت, وأقاموا دعوى لإلغاء الحجر عليها فربحتها في أعقاب محاضرة من محاضراتها الرائعة ألقتها في قاعة (وست) بالجامعة الأمريكية ببيروت في ربيع عام 1938 بدعوة من جمعية (العروة الوثقى) التي كان من أعضائها الشباب المؤرخ الكبير الدكتور قسطنطين زريق, وثلة من شباب لبنان والعرب المثقفين النبلاء, أصحاب الشهامة الغيورين على حرمة الأدب, وكرامة الأديب.

أعود إلى (نبوغ) مي الذي اتفق على إطلاقه عليها أولئك الأعلام المعاصرون لها فلقد برهنت عليه بمؤلفاتها وأبحاثها, ومواقفها الجريئة في الدفاع عن حقوق الأمة المهضومة, بنسائها ورجالها, في أوائل القرن العشرين, وفي دعوتها إلى الأخذ بالعلم, ونبذ التخلف, والنهوض بالمجتمع العربي كله بغية تقدمه للحاق بركب الحضارة الغربية, مع التأكيد على اعتزازه بهويته وعروبته وتاريخه المجيد الغابر, وحضارته القديمة التي نورت الغرب بانتشارها فيه عبر الأندلس وصقلية يوم كان يغط في ليل القرون الوسيطة.إن القصائد التي وصلتنا عن (النابغة مي) بريش كبار شعراء النهضة, وأحاديث الكتاب الذين عرفوها, المنشورة في كتبهم القيمة أكثر بكثير مما تسمح به مساحة هذه المقالة, وأحسب أن أفضل ما أختم به هذا الحديث نقل البيتين اللذين استهل بهما الشاعر الكبير شفيق معلوف القصيدة التي ألقاها يوم حفلةتكريمها بدمشق عام 1922 التي دعت إليها الأندية الأدبية فيها:

بنت الجبال, ربيبة الهرم

هيهات يجهل إسمها حي

لم نلق سحرا سال من قلمٍ

الا هتفنا: هذه ميُّ

كانت مي في العشرينيات من هذا القرن قد بلغت أوج شهرتها في الوطن العربي, يتنسم القراء من مقالاتها السلاسة في التعبير, والنضج في التفكير, وأسلوباً جذاباً في معالجة الموضوعات التي طرقتها ولم تقلد به أحداً, وفي إحدى زياراتها إلى لبنان كرمتها (عصبة الأدب) في بيروت عام 1922 فحياها الخطباء والشعراء المقدرون موهبتها وعطاءها وفي طليعتهم فيليكس فارس وجميل بيهم وسلمى صائع وعفيفة صعب وعجلاء ابي اللمع من الأديبات الرائدات, والأديب راجي الراعي صاحب (قطرات الندى), والشاعر شبلي ملاط والشاعر ميشال أبو شهلا الذي أنشد قصيدة من أجود قصائده جاء فيها:

هي النبوغ وكرم الأدبا

يا شعر هذا بعض ما وجبا

مجد الحياة لأمة عرفت

قدر الأديب فنالت الأربا

مي وما مي سوى قبس

للعلم مزق نوره الحجبا

إني أحيي فيك نابغة

حسد الأعاجم عندها العربا!

في ختام تلك الحفلة وقفت مي وألقت خطبة عنوانها: (الحركتان الصالحتان) وقد عنت بهما: تحرير المرأة وتحرير الوطن, فكان لخطبتها صدى عميق علقت عليها الصحف والمجــلات, وكان أقل ما جاء فيها أن ميا تجـلت للجمهور مفكرة وأديبة مبدعة, كان لكلامها تأثير السحر في الألباب.

مي زيادة

(1)

بين سـنتـي 1921 و1924 كنــت طالبــا فــي دار المعلمين بالقدس. كان مدرسو اللغة العربية الذين يعلموننا الأدب العربي شديدي العناية بالشعر الجاهلي. وقد حملنا أحدهم على حفظ مختارات من المعلقات, وهو أمر كان له في نفسي أثر لغوي طيب. لكنني كنت أحس أن هذا الشعر هو شعر البادية. فامرؤ القيس وعنترة وطرفة بن العبد وزهير بن أبي سلمى كانوا يرسمون صورة حية للحياة هناك بحبها وغرامها وشجاعتها وحروبها وقتالها وحكمتها والعلاقات القبلية. كنت أشعر مع أنني كنت في عهد الصبــا المبكر نسبيا, فأنا مولود في 2 كانون الأول/ديسمبر سنة 1907, انني بحاجة إلى شعر من نوع آخر. ولم يحل شعراء العصر الأموي المشكلة لأنهم كانوا يعيشون في الحواضر لكنهم يحسون ويتصرفون, ومن ثم ينظمون الشعر بروح البادية. ولما وصلنا إلى العصر العباسي شعرت بأن اتساق النبض عندي أصبح يختلف عن ذي قبل. فالمتنبي, مع جزالته, كان ابن الحاضرة, والمعري كان شاعر المستقبل.

هذه المشكلة الأولى التي كانت تدور في خلدي. فأنا بحاجة إلى شيء جديد بعد. أما المشكلة الثانية التي كانت تشغلني فهي قضية الطائفة الأرثوذكسية في فلسطين وعلاقتها بالبطريركية الأورشليمية. فقد كانت هذه تسيطر على كل صغيرة وكبيرة من شئون الطائفة. فكل أسقف (مطران) أو أي مساعد له, وجميع أعضاء (أخوة القبر المقدس), وهي التي تزود البلاد بجميع رجال الدين أصحاب السطوة والسلطة, مقصورة على اليونان, ولم يكن يسمح لعربي أن ينضم إليها. والأوقاف كان يشرف عليها البطريرك اليوناني. ولم يكن يسمح للعرب من الرتب الكهنوتية سوى أن يكونوا رعاة (خوارنة) فقط. ولم يكن يسمح لاحد من هؤلاء أن يدخل سلك الكهنوت إلا بعد أن يتزوج, وبذلك يُحال بينه وبين الترقية في تلك الرتب. وحدث أنه في سنة 1923 أن قامت في البلاد حركة شعبية, بدأت في الناصرة, وهي بلد أسرتي, ثم انتشرت في أنحاء البلاد, تطالب بتعيين أساقفة (مطارنة) من العرب. وكنا نحن نعمل فيها جاهدين في سبيل الوصول إلى تلك الغاية.

وكانت ثمة مشكلة ثالثة وهي القومية العربية. ففـي دار المعلمين لقنت, كما لُقن غيري, هذه المبادئ, وكنت أنا معنيا بها عناية كبيرة.

في تلك السنوات بدأت تصلنا كتب في الأدب والشعر ذات روح جديدة. كان أولها, بالنسبة لي, كتاب من جمع الشيخ محيي الدين رضا اسمه (بلاغة العرب في القرن العشرين), كانت فيه قصائد ومقالات لجماعة المهجر. ثم أنهالت الكتب, وبعضها جاء بعيد سنة 1924, بينها (الغربال) لميخائيل نعيمة و(خليل الكافر) و(المجنون) لجبران خليل جبران و(الريحانيات) لأمين الريحاني ومجموعة (الرابطة القلمية) لكتاب وشعراء كانوا يعيشون في أمريكا الشمالية. وسوى هذه كثير. ومن أهمها (ملوك العرب) لابن الريحاني. وكتب ومقالات الآنسة مي.

هذه الكتب, التي كنت ألتهمها, استجابت للمشكلات التي كانت تشغلني. فالغربال أرشدني إلى سبيل تذوق الأدب وتفهمه بروح جديدة. فازداد نبضي, وأصبحت لدي مقاييس جديدة لفهم الأدب و(خليل الكافر) ملأت فراغ الثورة على رجال الدين اليونان. و(الريحانيات) فتحت قلبي للثورة على القديم, و(ملوك العرب) كان يحوي بذور القومية العربية.

وقرأت لمي (ظلمات وأشعة) و(ابتسامات ودموع) ومقالات كثيرة كانت تنشر هنا وهناك. لكن ما كتبته مي مما قرأته أنا لم يحل لي مشكلة. لذلك لم أحفل بها كثيرا.

على أنني بعد سنوات, وقد بدأت التدريس, عدت إلى كتب مي فقرأتها وقرأت جديدها. وعندئذ اكتشفت عالما جديدا, لم أكن قد تنبهت إليه من قبل.

عندها, على ما أذكر, دخلت يوما مخدعي, وطأطأت رأسي وقلت (شكرا لك يا الله أن خلقت لنا مي).

فما هو هذا العالم الذي اكتشفته يومها؟

(2)

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر قامت الإرساليات التبشيرية المتنوعة الاتجاهات بفتح مدارس في أنحاء فلسطين. ولم يكن يومها في البلد من المعلمين ما يكفي للقيام بأود هذه المدارس. فاخذت هذه المؤسسات باستقدام المعلمين من لبنان. فكانت المؤسسات الإنجيلية (البروتستانتية) تستقدم أولئك الذين تعلموا في مدارسها في لبنان ليعلموا في مدارسها, كما كانت المدارس الكاثوليكية توظف معلمين من الطوائف الكاثوليكية. و(مدرسة دار الأيتام السورية) (التي عرفت باسم مدرسة شنكر على اسم أول رئيس الماني لها) في القدس من المؤسسات التي جذبت عددا لا يستهان به من المعلمين اللبنانيين.

وكان في مدينة الناصرة مدارس للفريقين, وكل فريق كان يستحضر مدرسين لبنانيين. وكان من الذين وصلوا إلى تلك المدينة الصغيرة اثنان ـ أمين فارس من بحمدون وكان يعلم في المدرسة الإنجيلية, وإلياس زيادة من شحتول (كسروان) الذي علم في مدرسة كاثوليكية.

كان أمين فارس متزوجا, أما إلياس زيادة فكان عزبا. لذلك قدر له أن يتزوج من فتاة ناصرية اسمها نزهة هي بنت خليل معمر, والأسرة أرثوذكسية ذات مكانة مرموقة في البلدة. وفي الناصرة ولدت مي سنة 1886.

وقد سميت (ماري) تيمنا باسم السيدة العذراء. وقد ولد للأبوين طفل فيما بعد لكنه توفي صغيرا. وكانت وفاته سبب حزن شديد مقيم للأسرة ولمي خاصة. كان هذا بداءة أحزانها التي ستلقى منها الكثير.

قضت مي السنوات الاثنتي عشرة الأولى من حياتها في الناصرة, وعندها بعث بها أبواها إلى مدرسة الراهبات في عينطورة (الفتوح) بلبنان, حيث أمضت أربع سنوات في قسمها الداخلي, نقلت بعدها إلى المدرسة اللعازارية في بيروت. وبعد سنة واحدة هنا عادت إلى الناصرة سنة 1904.

ولم تطل إقامتها في الناصرة هذه المرة. فإن الياس زيادة لم يكن يتصور أن يقضي بقية حياته في التعليم وفي مثل هذا المكان الصغير ـ المحذوف!

لذلك انتقلت الأسرة إلى مصر (سنة 1907), فأقامت في الإسكندرية بعض الوقت أولا ثم انتقلت إلى القاهرة, التي اتخذتها مكان إقامة نهائيا لهذه الأسرة الثلاثية.

حرر الياس زيادة في (المحروسة) أولا, ثم انتقلت إليه ملكيتها (1909). وكانت هذه هي النشرة الأولى التي زودتها مي بمقالاتها. ولكن مع الوقت كتبت في الزهور (لانطون الجميل) والمقتطف (برئاسة يعقوب صروف) والهلال (جورجي ثم إميل وشكري زيدان) والأهرام (رئيس التحرير داود بركات) والرسالة (أحمد حسن الزيات) والسياسة الأسبوعية (محمد حسين هيكل) وسواها.

أود أن أتوقف هنا عند انتقال الأسرة إلى مصر واستقرارها في القاهرة. إنه, بالنسبة لأهل هذه الأيام, خبر عادي. فالناس يتنقلون من بلد إلى بلد وصقع إلى صقع وقارة إلى قارة. لكن هذه النقلة كانت في السنوات الأولى من القرن العشرين, وكانت نقلة من الناصرة ـ القرية الكبيرة ـ إلى القاهرة. صحيح أن هذا كان عبر مرور ببيروت ولعله كانت ثمة زيارة للقدس. لكن كل هذه كانت شيئا شبه عادي. أما القاهرة فقد كانت سنة 1912 مثلا مدينة.

ليسمح لي القراء أن أتوقف عند زيارتي الأولى للقاهرة سنة 1933, وكنت في مثل سن مي سنة 1912, لعل هذا يعطينا جميعا فرصة لتصور أثر هذه النقلة على مي.

هبطت مع صحبي القاهرة مساء. في طريقنا من محطة سكة الحديد (باب الحديد) إلى الفندق في شارع فؤاد الأول (يومها, شارع الاستقلال لاحقا) مررنا بشوارع عريضة تقوم إلى جوانبها بنايات شاهقة (ستة وسبعة أدوار) كلها تلمع في الليل بسبب المصابيح الكثيرة.

قضيت ثلاثة أسابيع في القاهرة, زرت مدينة, عرفت معنى المدينة, تمكنت صورة المدينة في ذهني. قصور ملكية وقصور أمراء فخمة المنظر والمظهر, وقصور لبعض الكبراء والأغنياء متقنة الأثاث والفراش (دار العروبة لأحمد زكي باشا), متحف كبير (جدا) للآثار المصرية القديمة (وكانت موجودات قبر توت عنخ آمون قد عرضت فيه) ودار الفنون (والآثار) الإسلامية ودار الكتب المصرية, ومستشفيات كبيرة ومسارح ودور ملاه. الأهرام تشير إليك بوجوب الزيارة وكنيسة ماري جرجس تدعوك إليها, ولكن الذي تراه حولك فتتوقف معجبا معجبا معجبا عشرات المساجد الإسلامية الجميلة من الجامع الأزرق (الصغير) إلى مدرسة السلطان حسن (الضخمة).

حوانيت لبيع الكتب من الحديث الحديث إلى القديم طبعا وحتى المخطوط. وسور الأزبكية ـ مكتبة الشارع الأولى في القاهرة.

البنايات الضخمة التي كانت تؤوي الصحف الكبيرة كالأهرام والمقطم وسواهما.

والأزهر, ابن الألف عام أو يكاد, حارس التراث ومدرب رجال الدين المسلمين لأكثر الشعوب الإسلامية.

هذا بعض ما رأيته أنا سنة 1933. فكيف بمي, وهي آتية من جو أضيق حتى من جوي, وقبلي بنحو عشرين سنة. وأهم من هذا أنها كانت قد أصبحت صاحبة قلم وفيها نفحة من ربة الشعر. فضلا عن ذلك فهي عاشت هذا الجو ـ عاشته سنوات طويلة ـ بقلبها وعقلها ووجدانها وضميرها وشعورها وسرورها وآلامها.

وفيه حركة بدأت سنة 1908 ونضجت سنة 1912 هي إنشاء الجامعة المصرية الأهلية, التي أصبح منبرها أحد منابر مي.

أتُرى لو بقيت مي في الناصرة ماذاكانت قد كتبت ـ وجدانيات, مرارة, أوجاعا, باقات حب, ورسائل روحية قطبها السيدة العذراء, وقد تحوي هذه الرسائل الخلاف بين الطائفة الأرثوذكسية والطوائف الكاثوليكية في أي من كنيستي البشارة هي الصحيحة, وأي هي المزورة.

انتقلت مي إلى القاهرة فانتقلت إلى عالم يثير من له أذنان للسماع, وكانت لمي أذنان تسمعان وعينان تريان.

لا يتسع المجال هنا لتعداد المناسبات التي اعتلت فيها مي المنابر فسحرت, ولسنا ننوي أن نحلل أعمالها الأدبية (ولو أننا سنتحدث عنها حديثا مقتضبا) لا تحليل مؤرخ للأدب أو ناقد له, فأنا لا من هؤلاء ولا من أولئك. لكنني سأوجز هنا حياة مي المنتجة اليقظة, على ما تبدو في مئات المقالات التي زودت بها الصحف, على نحو ما أشرنا. هذه امتدت إلى أواسط العقد الرابع من القرن العشرين.

ففي ظل أم رءوم وأب رءوف, وكلاهما عاقل يهمه أن تسير مي في الطريق الأدبي الذي خلقت له, وفي رعاية صداقة قلما حصل عليها مثلها في عصرها, شملت ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ أحمد لطفي السيد والشيخ مصطفى عبدالرازق ومصطفى صادق الرافعي وعباس محمود العقاد ويعقوب صروف وداود بركات وخليل مطران وأحمد شوقي وولي الدين يكن وشبلي الشميل وانطون الجميل.

هؤلاء وسواهم كانوا رواد (ندوة الثلاثاء) الأسبوعية التي كانت تعقد في بيت الياس زيادة, واستمرت حتى بعد وفاته بقليل. كانت مي سيدة هذه الندوات, كما شهد بذلك الذين كتبوا عنها (وهم كثر لكنني قرأت البعض مما دونوا), وزنبركها, وكانت تثار فيها القضايا جميعها, الفكرية والأدبية والعلمية والشعرية والسياسية, ولكل دلو يدلي به بما عنده شارحا باسطا مدافعا متهما, وكانت هذه الشئون تديرها مي بقدرة ولطف, بحيث كان كل من الحاضرين يحس أنه استفاد وأفاد.

تقول الأديبة سلمى الحفار الكزبري في كتاب المؤلفات الكاملة لمي زيادة (من جمعها وتحقيقها وتقديم ممتاز لها) ظلت مي عزبة مع أن عددا كبيرا من الرجال قد خطب ودها وتمناها زوجا له, ولكن قلبها لم يخفق ولم يمل إلا لجبران خليل جبران, فكانت بينهما مراسلة رائعة امتدت من عام 1912 حتى قبل وفاة جبران بأسبوعين عام 1931 وأصبحت اليوم بين أيدي القراء في كتاب (الشعلة الزرقاء) وهو يحتوي على رسائل جبران المخطوطة إلى مي, من منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي بدمشق 1979 تقديم وتحقيق سلمى الحفار الكزبري والدكتور سهيل بديع بشروئي فاثبتت للباحثين أن الصلة بين هذين القلمين النابغين تدرجت من الإعجاب المتبادل إلى الصداقة الفكرية قبل أن تتحول إلى حب ضبابي ذي نزعة صوفية, و(شاء القدر ألا يلتقيا إلا على الورق).

(المؤلفات الكاملة لمي زيادة, منشورات نوفل بيروت 1982, الجزء الأول ص 13 ـ 14).

صحيح أن كثيرين أحبوا مي: البعض أحب وأشار في كتاباته, والبعض ضمن ذلك في مؤلف له, والبعض كتم الحب وعض على الأصابع, والبعض أدعى حب مي له. رحم الله الجميع!

لكن هذا الجو الذي عاشته مي وفيه كثير من السعادة, التي كان يشوبها حزن وأسى شديدان, لم تدم. ففي سنة 1929 توفي أبوها وفي 1931 مات جبران ولحقت الأم بهما في 1932. وهنا هربت السعادة من البيت وخيم عليه الأسى المرير والحزن العميق, ترفرف عليهما الوحدة القاتلة.

رغبت مي في الانتقال إلى لبنان لعلها تجد هناك بعض الراحة. ولكن عند وصولها بيروت (1931) وجدت نفسها متهمة بالجنون وسيقت إلى (العصفورية) (وهو مستشفى المجانين) ولم تنقل منه إلى مستشفى الجامعة الأمريكية ثم مستشفى ربيز إلا بعد جهد كبير بذله أصدقاؤها الذين تمكنوا من نفي التهمة عنها. لكن بعض أقربائها في لبنان نجحوا في إصدار حجر عليها في بيروت (1937) ورفعوا دعوى حجر مماثلة في المجلس الحسبي في مصر في الوقت ذاته.

عادت إلى مصر, ونجح محامون وأصدقاء بعد جهود مضنية, في رفع الحجرين عنها, لكنها كانت مضناة متعبة مهيضة الجناح معتلة الصحة. وتوفيت هناك سنة 1941. (فصّلت الأديبة سلمى الحفار الكزبري أخبار السنوات الأخيرة من حياة مي في كتابها مي زيادة أو مأساة النبوغ, الجزء الثاني, من منشورات نوفل في بيـروت 1987, ص 161 ـ 442, فليرجع إليه).

(3)

العالم الجديد الذي اكتنفته بعد عناء كان عالم مي المفكرة الكاتبة البارعة. وقد كتبت عنها أخيرا المقطوعة التالية, انقلها هنا إذ إنني أراني قد انصفت الأديبة المفكرة مي بعض الإنصاف:

(كانت مي تُعين موقع طريدتها, اظبيا كانت أم طائرا أم زهرة أم فكرة أم قضية أم مشكلة أم حبا, ثم تلقي عليها شبكتها وتجذبها إليها. فإذا وقعت بين أيديها حادثتها وداعبتها وغنجتها وشاكستها وحاورتها وناقشتها. حتى إذا اطمأنت إلى أنها عرفت أسرارها وكشفت عن خبيئتها وأدركت كنهها, عمدت إلى قلم سداه الصدق ولحمته الإدراك ومداد صيغ من العطف, فخطت على طرس الفؤاد والعقل ما تراه حول هذه الطريدة من حب وفهم لأعماق أعماقها, بأسلوب سلس طلي واضح المبنى والمعنى. فأخرجت بذلك وصفا للوضع أو حلا للقضية. وقد يكون في أسلوبها نعومة الأسى أو عاصفـــة الثــورة أو حمـم البراكين, ومع ذلك تتضح لك أيها القارئ كل خلجة وكل نبرة وكل رأي).

أما الطرائد التي تصيدتها مي في حياتها فتشمل كل قضايا الإنسانية جمعاء ومشكلات العالم العربي بأكملها وحرية المرأة العربية واستعبادها. وفي (المؤلفات الكاملة) المذكورة آنفا نحو 160 قضية عالجتها. (وقد أضيف إليها فيما بعد قضايا كثيرة, اكتشفت بعد نشر الكتاب).

هذا فضلا عن رسائلها إلى جبران (التي لم يعثر عليها حتى الآن). هذه موجودة في كتبها: (بين الجزر والمد), و(المساواة) و(غاية الحياة) و(كلمات وإشارات)ـ1, و(كلمات وإشارات) ـ2, و(ظلمات وأشعة) و(الصحائف), و(سوانح فتاة). إلى هذا فلمي ثلاث تراجم لثلاث سيدات هن: (باحثة البادية), و(وردة اليازجي) و(عائشة تيمور). في هذه الكتب أثبتت مي أنها كانت بحاثة أصيلة, تحيط بموضوعها تنقيبا وتقصيا ومقاربة ومقارنة ومقابلة قبل أن تخضع مادتها لأسلوبها الفذ من حيث دقته ونصاعته ووضوحه.

فضلا عن ذلك فمي نقلت إلى العربية ثلاثة كتب: الحب في العذاب عن الإنجليزية (The Refugees, A.C. Doyce), وابتسامات ودموع) عن الألمانية (Deutoche Liebe – Frederich Max Muller), و(رجوع الموجة) عن الفرنسية (Le Retour du Flot – Brada)

وكان في الواقع أول مانشر لمي ديوان شعر بالفرنسية هو (زهرات حلم) (Fleurs de Reve) وذلك سنة 1911 في القاهرة, وباسم مستعار هو إيزيس كوبيا. واستمرت مي تكتب وتنظم بالفرنسية, لكن كتابتها بالعربية هي التي غلبت عليها إلى درجة بعيدة.

وبعد فما الذي يمكن أن يقال عن دور مي في النهضة الأدبية في النصف الأول من القرن العشرين, كانت مي متحررة ثائرة: مع الفقير والضعيف والعبد والمقهور وأسير قيود المجتمع, وخاصة مع المرأة التي لم تكن لها حرية إلا فيما ندر. وكانت ثائرة: ضد الظلم والعدوان والطغيان والرجعية والجهل والتجهيل.

دعت إلى نفض غبار الأجيال عن مجتمعنا وطالبت للناس, أفرادا وجماعات, بالحرية. ولعل كتابها (المساواة) من خير الأدلة على هذا الموقف. والمهم أنها لم تدعُ إلى الحرية شعرا فقط, بل خططت لذلك تخطيطا فيه علم ومعرفة.

كانت مي نابغة, وقد وضعت نبوغها وقدرتها في خدمة الناس أجمعين.

فلتقرأ مي من جديد لندرك دورها وأثرها.

صالون مي
بقلم: الدكتورة آنتي زيغلر

نشأ صالون مي خلال فترة تحول اجتماعي جذري شامل في كل مناحي الحياة. ذلك أن التصورات القديمة للانتماء السياسي انهارت, وتم تعويضها بمفاهيم وطنية جديدة. فالدعوة إلى الاستقلال السياسي, سواء عن النظام العثماني أو الاحتلال البريطاني, ارتبطت لدى مجموعة من المصلحين والمثقفين الذين تخرجوا من المؤسسات التعليمية العلمانية الجديدة, أو من الجامعات الأوربية, بالرغبة الملحة في الحرية الفردية والمساواة. وكانت المطالبة بتحرير المرأة من ضمن مطالبهم الرئيسية.

وقد أصبحت أوربا باعتبارها رافعة لواء التقدم المبني على العقل تمارس تأثيرا عظيما على طليعة من المثقفين, غير أنها ظلت تحتفظ بدور مزدوج, فهي المثال الذي يحتذى والخصم الذي يجب مقاومته في الوقت نفسه. وأدى التمدين ونشر العلم إلى تغيير في البنية الاجتماعية لا مثيل له, وإلى ظهور طبقة مثقفة سريعة النمو أصبح أبناؤها يجتمعون في مجالس وندوات ومقاه وجمعيات لتبادل الأفكار, وتحديد موقفهم من سير ذلك التحول الذي زعزع القيم التقليدية بينما ترك الطريق إلى المستقبل أي (العصر الحديث) يلفه الكثير من الغموض. لكن المترددين على مثل هذه المجالس كانوا ـ وفقا للتقاليد ـ من الرجال فقط. ومع أن النساء كن قد بدأن بالالتحاق بالمؤسسات التعليمية, والكتابة بأسماء مستعارة, وتأسيس مجلات وجمعيات خاصة بهن, إلا أنهن بقين معزولات إلى حد بعيد عن الحياة العامة.

جاءت نساء من أمثال مي زيادة تعبدن الطريق لإنهاء التجمعات التقليدية التي كانت تقتصر على الرجال, وذلك بفتح أبواب منازلهن وتحويلها إلى صالونات للحضور من الجنسين. وقد هيأن عبر هذه الصالونات مجالا سمح بالتعامل المتساوي بينهما. غير أنهن لم ينشئن بهذا مجرد نمط جديد من أنماط المجالس, بل ونوعية جديدة من السلوك الاجتماعي. ومن خلال ذلك تغير معنى الثقافة فلم تعد تقتصر على توفر مجرد المعرفة, بل صارت تعني كذلك إرهاف الضمير وتهذيب العادات والذوق والأخلاق. إذن فالصالونات كانت بطابعها النسائي أدبية بكل معنى الكلمة, بل وقد حولت إلى مشروع جمالي لم تستطع تحقيقه ولم تستهدفه أصلا المجالس التي ساد فيها الرجال. وقد أصاب الشاعر المصري إسماعيل صبري, وكان من أوائل المترددين على صالون مي زيادة, عندما وصف هذا الفرق بما يلي: (لاحظ مجلسا من مجالسنا احتشد فيه الرجال والشباب, فماذا تجد؟ تجد الحركات العنيفة والأصوات الناشزة, والمناقشات الفجة, الأحاديث الجريئة والكلمات المندية, والذوق العامي, والإحساس البطيء؟؟ لاحظ هذا المجلس وقد حضرته امرأة واحدة لا غير, تجد الحركات تتزن, والأصوات تدق, والمناقشات تنتج, والأحاديث تحتشم, والكلمات تنتقى, والذوق يسمو, والإحساس يدق..).

وهكذا حققت الصالونات ثورة صامتة, ثورة الروح والظرافة, ونشأت وازدهرت فيها رقة جديدة تماما في المشاعر وجدت تعبيرا لها في الشعر والنثر.

خرق التقاليد

وكما هو معلوم, لم تكن مي زيادة أول امرأة تجرأت على خرق التقاليد بإدارة صالون, فهناك نساء من الطبقة العليا مثل الأميرة نازلي فاضل في القاهرة أو ألكسندرة أفيرينوه في الإسكندرية قد قمن بمثل هذه الخطوة قبلها, وهنالك من سبقها خارج مصر, أغلبهن مسيحيات من لبنان وسوريا, تلقين تعليمهن في مدارس أوربية, وبهذا كن منفتحات على فكرة الصالون بوجه خاص.

وكانت مي زيادة هي الأخرى مسيحية ومتخرجة في مدارس تبشيرية جعلتها متأثرة بالآداب الأوربية, إلا أنه توفرت فيها مميزات حققت لصالونها جاذبية خاصة. لقد حققت مي أعلى مستوى للتعليم والثقافة كان يمكن أن تحققه امرأة في عصرها فالتحقت بالجامعة المصرية في وقت لم يكن يسمح فيه رسميا للنساء بالدراسة بعد. كما منحتها جريدة والدها الفرصة لنشر مقالاتها الأولى والتعرف على أوساط الناشرين والصحفيين والأدباء. وخلافا لمعظم زميلاتها من صاحبات الصالونات في البلدان العربية لم تكن مي متزوجة, ثم إن صالونها كان الوحيد في القاهرة آنذاك الذي أدارته امرأة واستقبلت فيه ضيوفا من الجنسين.

وبفضل شخصية مي, أصبحت أمسية الثلاثاء في صالونها حدثاً فريداً, لم يرد أحد من رواده ـ ومعظمهم من الرجال ـ أن يفوته حضوره. وفي الوقت نفسه لم يكن بالإمكان إقامة الصالون والتمتع بالمكانة الاجتماعية المرموقة له لو لم يكن يقام في إطار تقليدي, وهو بيت العائلة وحضور الوالدين. فخرق التقاليد الذي يشكله الصالون حدث كما نرى في نطاق التقاليد وتحت حمايتها.

لقد ميز الربط بين التجديد والتقليد بنية صالون مي ومهمته, وساهم مساهمة فعالة في التقاء شخصيات جد متباينة لمدة تقارب عشرين عاما, لتبادل الآراء بصرف النظر عن الفوارق الاجتماعية والدينية والعقائدية, ومنهم الدكتور شبلي شميل من أنصار مذهب داروين ويقابله العلامة الأزهري مصطفى عبدالرازق, كذلك الشاعر مصطفى صادق الرافعي وأشد نقاده عباس محمود العقاد. وعندما وصف طه حسين صالون مي بأنه (ديمقراطي) على العكس من صالون الأميرة نازلي فاضل (الأرستقراطي) قصد بذلك قوة الإدماج الفريدة هذه التي اتسم بها صالونها.

نقد صالون مي

والجمع بين أنصار الآراء المختلفة الذي حققه هذا الصالون, حتى في مرحلة تصاعدت فيها الحزبية السياسية بعد استقلال مصر الشكلي, كان من أسباب نجاحه كما كان من أهم أهداف مي زيادة. وعندما وجه سلامة موسى, فيما بعد, سهام نقده إلى صالون مي قائلاً إنه كان ينقصه الهدف والبرنامج وإن وجوده استند إلى جمال صاحبته وفتنتها فقط, فلقد فاته أن مي تعمدت في صالونها عدم الالتزام الأيديولوجي. ولا ننسى أن مي, المسيحية المشرقية, كانت تميل إلى اتخاذ مواقف وفاقية معتدلة في القضايا السياسية والاجتماعية, كوسيلة تجعلها مقبولة في المجتمع المصري الذي كانت ترغب فعلاً في الانتماء إليه.

والصالون بالحرية الفكرية والاجتماعية التي وفرها لكل من المضيفة والضيوف شكل منبعاً للإنتاج الأدبي. فبالنسبة لمي زيادة أصبح العامل المحرك لمسيرتها الأدبية, لأنها تمكنت فيه من توطيد العلاقات مع الأدباء ومن سماع النقد والمشورة والتقدير بشكل مباشر أغناه الحوار المتبادل. كما أن الناشرين المترددين عليه كانوا يقترحون عليها أفكارا تصلح لكتب جديدة تؤلفها. وكان رواد الصالون من المؤلفين يكتبون المقدمات لبعض مؤلفاتها. كما كتبت هي كذلك مقدمات لأعمالهم. ولم يكن ذلك مألفوا في زمن كانت فيه مؤلفات المرأة لا غنى لها عن كنف قلم أحد الرجال.

طقوس الصالون

وقد أتاحت لها تلك المناقشات تهذيب قدرتها على بناء الأحكام مما جعلها تتميز فيما بعد في مجالات النقد الاجتماعي والأدبي والفني. وقد انعكست الطقوس المتبعة في صالونها, من حرص على الكلام المنتقى وولع بالملح واللطائف المنطوية على البلاغة والحكمة في إيجاز جميل, انعكست هذه الطقوس في بعض كتاباتها مثل (خواطر متناثرة) و(سطور) و(شرر وحبب) التي نشرت في العديد من الصحف والمجلات. ودفعها قربها الوثيق من شخصيات صالونها إلى كتابة عنها في حياتها وإلى رثائها بعد رحيلها, كتابة اتسمت بالعمق والنقد المتبصر خالية من كلمات الإطراء التقليدية الرنانة التي طغت على مدائح ومراثي عصرها. ويتجلى هذا الأسلوب الجديد في كشفها عن الوجه الآخر لشبلي شميل, نصير المادية ومدعي الاحتقار للفنون, قائلة إنه شاعر رغم أنفه, أو عند تسميتها إسماعيل صبري لرقة عاطفته وبساطته وجلائه شاعراً كبيراً (على بضاعته الشعرية المحدودة).

أما الـ (رجال حول مي) كما عنون العقاد لذكرياته في الصالون, فإن اللقاءات الودية وتبادل الأفكار مع هذه الأديبة قد ألهب خيالهم وأثرى إبداعهم. وحسب فتحي رضوان, الذي تردد على الصالون في آخر عهده, فقد أخرجهم هذا الصالون (من دنيا جامدة خامدة إلى عالم متحرك حر, تشم فيه رائحة القلوب). أصبحت لغة القلوب أو (الفن العاطفي) كما سماها العقاد هي السمة الغالبة على الأدب الذي كان ثمرة هذا الصالون. وقد عبر الضيوف في الكثير من أشعارهم المهداة لمي ليس فقط عن إعجابهم بها وتقديرهم لها, بل وعن محبة صادقة وارتباط وطيد لم يكن معهودا آنذاك بين رجل وامرأة لا تربطهما علاقة الزواج. على أن الميل إلى إجلال مي الرومانتيكي في هذه الأشعار سواء في صورة الإلهة إيزيس, كما هو الحال في إحدى قصائد خليل مطران, أو في شخصية مريم العذراء, كما رسمها العقاد في بعض أبياته, قد عكس العرف السائد في هذا الصالون ألا وهو قرب صاحبته من ضيوفها مع استحالة الفوز بها.

غير أنه كان بين رواد الصالون من لم يكن يدرك الحد المتاح له من الحرية جيداً, فالرافعي الذي حاول تجاوز هذا الحد عندما ألح في خطب ود مي, آثر اعتزاله في غضون مدة وجيزة. لكن الآمال الخائبة لم تبارحه طيلة سنين, فأملت عليه عكسها في ثلاثة أعمال نثرية تناولت مختلف جوانب الحب. وتطور نقد طه حسين والعقاد اللاذع للأسلوب التقليدي لهذه الأعمال وردود الرافعي الشديدة اللهجة, خصوصاً في الجدل المثار حول كتاب في (الشعر الجاهلي) لطه حسين, إلى معركة أدبية شكل الصالون خلفيتها مع أنه لم يكن طرفاً مباشراً فيها.

وحتى رواية العقاد (سارة), تجربته الوحيدة في هذا المضمار الأدبي التي يعتقد أنه عرض فيها علاقته بمي بتجسيده لها في شخصية (هند), فإن من الصعب تخيل إبداعها لو لم يتعرف عليها عن كثب في الصالون.

لقد صبغت اللهجة الأسرية للتعامل في الصالون أسلوب الرسائل المتبادلة بين مي وضيوفها بصبغتها, فاتسمت بالزهد في عبارات المجاملة الجامدة المستهلكة, وبالبساطة والوضوح والعفوية. كانت بمثابة مواصلة للحديث خارج الصالون وفي غير أوقاته المعتادة, وتعبيرا عن الشوق لذلك الأنس الذي لم يكن يتسنى لرواد الصالون معايشته في واقعهم الاجتماعي. وبهذا المعنى كتب يعقوب صروف مرة يرد على رسالة من مـي: (أما أنت وكتــابك يا حبيبتي فقد رفعاني.. إلى (الأتوبيا) التي نحلم بها).

الأدب الخاص

ومن خلال نوع المراسلات وحجمها خلق صالون مي زيادة, حسب شهادة العقاد, صنفاً جديداً من صنوف الأدب العربي وهو (الأدب الخاص). وتطور فن المراسلة هذا من الخاص إلى العام. فظهرت آنذاك مقالات أخذت شكل (الخطاب المفتوح) وأصبحت وسيلة مهمة من وسائل النقاش العام. ولم يكن نشر مثل هذه الخطابات وحده هو الذي جعل تأثير صالون مي يمتد إلى خارجه. فالحفلات التي كانت تقام فيه تكريما لبعض المؤلفين وعلى شرف أدباء وعلماء أثناء مرورهم بمصر, جعلته محط أنظار الرأي العام كما ساهمت في إيجاد حوار أدبي عالمي.

على الرغم من أهمية هذا الصالون, فالمجتمع المثالي الذي كان يطمح إليه بقي حلما في أكثر من وجه. فلم يتسن له كملتقى لنخبة فكرية ذات توجه غربي تحرري إلى حد بعيد, تعميم تأثيره على بقية المجتمع, بل كان من رواده من لم يساند أهدافه مساندة صريحة, كما أن مي لم تلق اعترافا مطلقا بها ســواء كامرأة أو كأديبـة. فها هو العقاد ينتقص من مكانتها الأدبية إلى حد جعلها تقتصر على الجانب الاجتماعي. إذ كتب يقول: (بهذه الروح الرءوم جعلت مي مباحثها كلها سمرا مؤنسا, وصيرت الدنيا كلها غرفة استقبال لا يصادف فيها الحس ما يصدمه ويزعجه) أما سلامة موسى فقد رأى أن مي كانت خطيبة أكثر منها كاتبة, مستندا إلى التفرقة التقليدية التي جعلت الكلام للمرأة والنص للرجل. كما حكم عليها بأنها حسب التقاليد الشرقية, لا يمكن التفكير فيها كزوجة لمجرد إدارتها صالونا.

وبين إغلاق الصالون عقب وفاة والدي مي كيف أن التحفظات التقليدية ضد الاختلاط بين الجنسين مازالت مستمرة. وبهذا فقدت مي محيط حريتها المعتاد. وتزامن ذلك مع سريان تيار في المجتمع المصري يدعو إلى العودة من جديد إلى القيم الإسلامية إعراضا عن المثل الغربية الليبرالية, ولقي ذلك تأييدا من بعض رواد الصالون. وهكذا بدأت مي تشعر بعزلة متزايدة, واتضح لها أن الصالون الذي تحقق فيه الاندماج الاجتماعي لمدة تقارب عقدين من الزمان, كان مكانا ترعرعت فيه الأحلام المستحيلة. وكانت التحولات السياسية الاجتماعية مطلع الثلاثينيات قد ساهمت في إغلاق الصالون وفي المنعطف المأساوي في حياة مي. كما كانت سببا جعل بعض الكتـابات التي تناولت موضوع مي زيادة تسيء فهم شخصيـتها وظروفـها وأهـداف صالونها إلى حد تشويه سمعتها الأخلاقية والفكرية في كــثير من الأحيان.

ملف خاص

جهاد فاضل
حوار أخير مع البصير
في زيارته الأخيرة للبنان، جمع بيننا هذا اللقاء الذي لم أكن أدري أنه الأخير، وأن هذا الحوار سوف يصبح أشبه بوصاياه الأخيرة.

يؤلف هذا الحوار مدخلاً إلى سيرة الأديب الكبير الراحل عبدالرزاق البصير وأدبه، ففيه يتحدث عن جوانب من سيرته: عن دخوله مبكراً حلبة العمل السياسي وهو دون العشرين من عمره، إلى أن ساهم بعد ذلك في تأسيس كتلة الشباب الوطني في الكويت وصار خطيباً لها، ويعرض، ربما للمرة الأولى، لأثر العمى الذي ابتلي به في حياته، وعمّا يجمعه بأدباء عرب في القديم والحديث كانوا أيضاً كفيفي البصر كأبي العلاء المعري وبشار وطه حسين.

وعندما ألححت في سؤاله عن غياب البوح الذاتي في أدبه، وعن انصرافه إلى “الخارج” أي إلى الشأن الأدبي أو الفكري العام، لم أظفر بأجوبة مقنعة، لقد أدلى بنفوذ “النظام العام” الفكري على الخصوص، وبكون الظرف غير ملائم كي يبسط القلم كل ما تجده النفس أو ما تشعر به على النحو الوارد في الحوار.

يحضرني وأنا أجالسكم الآن سؤال حول تجربتكم الجوّانية بالذات، أنا أعرف أن لكم مرادفاً في تجربتكم النفسية هو المعرّي وبشار في القديم، وطه حسين في الحديث، إنها تجربة فريدة: أديب هو بصير من حيث الفكر والروح، ولكنه كفيف على صعيد النظر أو البصر، مثل هذه التجربة جديرة بأن تُبسّط للقارئ لمعرفة هذا المخزون النفسي والروحي الذي صدرتم وتصدرون عنه.
– هذا السؤال عميق وعميق جداً، ولكنني أعتقد أن الاشتراك في هذه الآفة، وهي فقد البصر، لا يكون عند المكفوفين واحداً، كل إنسان يبقى على المزاج نفسه الذي تربى عليه، أو نمت ثقافته منه.

أبو العلاء المعري وزهده في الدنيا، وقدرته الحافظة إلى غير ذلك، لكن هناك تجربته التي عاشها التي تختلف اختلافاً كلياً عن تجربة بشار، بشار إنسان منطلق وكأنه لم يكن كفيفاً، لقد أعطى نفسه كل ما تشتهي من الناحية المادية.

طه حسين يختلف عن هذا وذاك، يختلف لأن تجربته في الحياة تختلف، أنا أعتقد أن هذه الآفة لا تستطيع أن تجعل المبتلين بها على نهج واحد في حياتهم إطلاقاً، هذه آفة يُبتلى بها الشخص وتبقى شخصيته، تبقى تربيته، تبقى بيئته وكيف يعيش، كيف تربّى، فأنا لا أرى أن هذه الآفة تجعل المبتلين بها مشتركين في شيء على الإطلاق، وهذا رأيي.

ولكن، أليس لها تأثير في النفس والروح والحياة الداخلية بشكل عام؟ أليس هناك بالتالي، من قواسم مشتركة؟ هذا الانصراف عن، الخارج، والانكباب على الداخل، هذه “الجوّانية” بالذات، أليس لها أثر، وأثر واحد في الأدب، في الإبداع، في النظر؟
– لا بد أن يكون طبعاً، لكن، كما قلت لك، كل إنسان حسب تربيته، بعض الناس لا ينصرف إلى الداخل إطلاقاً، أنا أعتقد أن بشار بن برد لم ينصرف إلى الداخل، لا أذكر أنني قرأت في ديوانه شكوى من ابتلائه بهذه الآفة، طه حسين بالذات، يشتكي كثيراً منها، ويحسّ بثقلها عليه.

أنا شكواي كثيرة من هذه الآفة، ولكنني لا أخرجها في ما أكتب من المقالات إلا قليلاً، كتبت مقالين أو ثلاثة عما أُصبت به، وعما أحسسته وعرفته، ولكن ما كتبته وما أحسسته، كان غير ما كتبه وأحسّه أبو العلاء المعري وبشار وطه حسين، وكلهم كانوا على الحال التي ذكرتها لك، كل إنسان حسب بيئته، هذه الآفة تؤثر، ولكن ليس إلى الحدّ الذي تغيّر في فكره، على الإطلاق.

هناك كتب مثل “نكت العميان”، لكني لم أر محلاً لي في حكاياته.

أنا والمعري وطه حسين

المعري، كما هو معروف، كان لآفة العمى تأثير كبير فيه، على صعيد النظرة إلى الحياة، إلى الوجود كله، هذا التشاؤم الأسود الذي نلحظه عنده، هذا التشاؤم المرّ، لا شك أنه أثر من آثار آفته، في حين أن طه حسين كانت له أشياء كثيرة يشعر معها قارئه أنها نتيجة لهذه البلوى التي ابتلي بها، نتيجة لضيق في الذات، في النفس؟
– طبعاً، أنا قرأت له وقفاته العميقة جداً مع المعري، هو يشترك معه في وقفاته ونظراته، ولكن إذا أخذت بشار بن برد، لا تجد لديه ما وجدته عند المعرّي أو عند طه حسين، “يا قوم أذني لبعض الحيّ عاشقة”، “حسبي وحسب الذي كلفت به/ مني ومنه الحديث والنظر”، أو “عضة في ذراعها ولها/ فوق ذراعي في عضها أثر”، “واسترخت الكف للعناق وقالت “.

أنت تجد بشّاراً رجلاً مادياً وقد أعطى نفسه كل رغباتها، قد يكون يشعر أو لا يشعر، لكن كل هذا لم يظهر في ما كتب من شعر، على الإطلاق، حسب ما قرأت في ديوانه.

سياسي… قبل فوات الأوان

لاحظت من خلال قراءتي لكتبكم أنها اهتمام في الأدب، بالنتاج الأدبي، متابعة لما يجري في الساحة الأدبية والثقافية بوجه عام، كما لاحظت أن هناك غياباً للذات، أو غياباً للشخص في هذه الكتابة، ألم يكن من المجدي أن تكتبوا كتاباً في السيرة الذاتية، وفي التجربة الروحية، إلى جوار كتبكم هذه، ألا تجدون مثل هذا الكتاب كتاباً جميلاً وممتعاً؟ ألا تجدون، استطراداً، أن مثل هذا الكتاب الذي أدعوكم إلى كتابته، كتاباً مفقوداً في أدبنا، قديمه وحديثه؟
– الأصدقاء الذين يعرفونني ألحّوا علي إلحاحاً شديداً أن أكتب هذا الكتاب، وأنت تجعلني الآن أقول لك أشياء تتصل بحياتي وسيرتي، أنا حياتي غريبة، حياتي كانت غريبة جداً، لذلك فإن الكتابة في مثل هذه التجربة تكون في أن أترك الأشياء الكثيرة لأني خضت في السياسة من سنة 1938، كان عمري ست عشرة سنة، السياسة أخذتني منذ ذلك الوقت، وقد تكون أخذتني حتى الآن، لذلك فإن تجربتي، لو أكتبها، لربما أضطر إلى ذكر أشياء تثير عليّ أموراً كثيرة جداً جداً، لا أخفي عليك أنني خضت في السياسة في زمن كان من المفروض ألا أكون فيها، ولكنني خضتها، وعيت نفسي وأنا أخوض في السياسة، وجدت نفسي في المجلس التشريعي سنة 1936، كان عمري 16 أو 17 سنة، وأنا كنت خطيب كتلة الشباب الوطني في الكويت، وطبعاً، هذا لم يكن مرغوباً أو مقبولاً، على الأصح، من قبل الحكم في ذلك الحين، وقد اضطررت أن أترك البلد، وهذا موضوع أخاف أن أطيل عليك الحديث فيه، لأنه كان صدر حكم بجلدي في السوق، لكن جاء شخص وأنقذني من هذه القضية ثم سافرت إلى العراق، ومنه إلى البحرين، ومنها إلى المنطقة الشرقية في السعودية، وبقيت فيها سبعة أشهر إلى أن توسّط المتوسطون، أنا لا أدري ولا والذي كتب لي أن آتي.

هذه القضية تجعلني لا أكتب تجربتي الذاتية بصدق، إذا أردت أن آخذ الأشياء بظواهرها، فهذا شيء آخر، ولكن إذا أردت أن أكتب تجربتي الحقيقية، فإنني أخشى أن أثير أشياء، وبصراحة، قد لا يكون الوقت وقتها.

تساؤلات حول الوجود

هناك دائماً مجال للقول، ومتسع للقول دون أن يحشر الكاتب نفسه في هذه الزاوية الضيقة أو تلك، ثمة مجال واسع لكي يبسّط الكاتب رأيه بأسلوب غير مباشر.
– عندي آراء خاصة، مثلاً، أنا عندي أسئلة قلقة، أنا أتساءل دائماً: لماذا جئنا؟ وإلى أين نمضي؟ وكيف نبقى؟ ولماذا؟ هذه الدوامة التي نلفّ فيها، قد لا تكون أجوبتها يسيرة على الناس، نعم، أنا أريد أن أتحدّث في أشياء غير عميقة، آخذ الأشياء الظاهرة فقط، أما العميقة، فإنها لا تصلح أن تكون لتلك البيئة المحافظة التي أعيش فيها، ثمة معايشة بيني وبين نفسي لهذه الأسئلة، وقد أكون كتبت حول هذه الأسئلة، كتبت مرة: “إن الذين يقولون بأن العقل نعمة على الإنسان واهمون”، وكتبت في هذا مقالاً طويلاً جداً.

ليس الأمر سهلاً على كاتب مثلي أن يثير مثل هذه الفلسفة أو هذه النظرة، أو هذه الفكرة في تلك البيئة المحافظة جداً، ثم إن البلاد العربية كلها قد ارتدّت ارتداداً شديداً جداً إلى درجة أن الإسلام أصبح جسراً يعبر الناس عليه لمصالحهم الذاتية، وأعتقد أن هذا خلاف ما يريده الإسلام وما جاء الدين لأجله.

قد تكون اطّلعت على ما حدث لوزير الإعلام السابق عندنا، قضية الكتب الممنوعة، أنت تعرفها، وأنا شخصياً كتبت أن هذا الذي حدث لوزير الإعلام غير جائز، كان وزير الإعلام في موقف سليم تماماً، قلت أيضاً: إن المساس بالذات الإلهية يُقذف في وجه كل إنسان يريد أن يقول رأياً يخالف رأي الآخرين.

عندنا تحوّل نحو التزمّت الشديد وهو غريب تماماً عن الإسلام، دين الحرية، لدينا في الكويت فسحة واسعة من التعبير، ولكن المتشددين لهم الغلبة في الوقت الراهن، هم ضيّقون في فهم الإسلام، لديهم ضيق شديد في فهم الدين بصورة عامة، وأنا أعتقد أن أكثرهم ليس كذلك، وإنما لأن هذا موجة أو جسر يركبون عليه ليصلوا إلى مصالحهم، صحيح أن بعضهم صادق، ولكن صحيح أيضا أن أكثريتهم، أو المسيطرين عليهم، ليسوا كذلك، وهذه هي المشكلة.

في جلبات القومية

ومع ذلك، فأنا لا أقصد أن تكتبوا حول هذه القضايا التي تتحدثون عنها، يمكن للكاتب أن يتجه اتجاهات أخرى في بسط تجربته، أن يتحدث هذا الكاتب عن أقاليم نفسه، عن الفرح والغبطة في هذه النفس، عن حالات الانكسار والسقوط، عن رحلات تغيب فيها النفس في أغوار بعيدة، عن رحلات أمكنها القيام بها وعادت سالمة، أو لم تتمكن أن تعود أبدا، قرأت مرة مائة كتاب لكاتب، فلم يلفتني فيها شيء، ولكني قرأت له كتابا صغيرا تحدث فيه عن نفسه، فأسرني وتمنيت لو كتب تلك المائة على غراره.
– أنا كتبت مرة مائة صفحة عن حياتي ولم أنشرها حتى الآن، أنا الآن قلق قلقا شديدا لا حدّ له، قلقي يأتي من شقين: الشق الأول يأتي في هذا الارتداد الموجود في البلاد العربية جمعاء، في مصر هذا الارتداد الظلامي يسيطر على نقابة المحامين ونقابة الصحفيين إلى حد كبير، والحكومات تداري ولا تقاوم، أنا أرى أن الحرية مطلوبة، ولكن إذا كان هناك أناس لا يؤمنون بالحرية، فماذا نفعل؟ كيف أعطي الحرية لشخص لا يدين بالحرية؟ كيف أسمح لأشخاص بأن يخوضوا الانتخابات وأن ينجحوا فيها وهم لا يعطونك الحرية لاحقا؟

وقلقي أيضا نابع من خلفيتي الفكرية، أنا قومي، أنا مؤسس النادي الثقافي القومي، أنا من مؤسسي هذا النادي مع آخرين، طبعا قد نكون اندفعنا عاطفيا، وكان ينبغي ألا نندفع مثل ذلك الاندفاع، القومية ليست ثوبا نخلعه، الشباب اليوم لا يرون في القومية شيئا، اسأل هذا الشاب، يقول لك أنا كويتي أو سعودي أو سوري أو لبناني، دون أن يدري أن الكويت أو سواها من الأقطار العربية لا تمثل أمة.

العراق أخطأ كيراً بحقنّا، ارتكب العراق إثماً فظيعاً تجاه الكويت، ولكن العراق ، شئنا أم أبينا، جزء من الأمة العربية، نظامه السياسي رديء، هذا صحيح، ولكن العراق بلد عربي.

أحب أن أسمع منكم رأياً حول الأدب العربي اليوم؟
– أعتقد أن مفهومنا للثقافة قد تغير عما كان عليه في السابق، أنا شخصياً عشت في الخمسينات والستينات، كانوا يرتضون من الأديب أن يعرف تراجم شعراء الجاهليين والأمويين والعباسيين، ويحفظ من أشعارهم وأخبارهم ويكتب عنهم كما فعل الدكتور طه حسين في “حديث الأربعاء” مثلا، لكن الأمر تغير في أيامنا، قد يكون المرء مثقفا، ولكن هذا ليس كل المطلوب في الثقافة، في أيامنا هذه ينبغي أن تكون الثقافة صورة للحياة، أي متعلقة بحياة الإنسان، فحاضرنا يلح على أن يعالج الأدب الصادق مشاكل الإنسان، لذلك، فالأدب ينبغي أن يكون صورة لما نحن عليه.

الشعر فقد الكثير من مكانته، بات اليوم عبارة عن تقليد لما عند الأجانب ، الكثير من صور الحداثة عند آبائنا وشعرائنا هو تقليد لما عند الغربيين، يقال ما لا يفهم ويعد شعرا، ويقال حتى في المقالات مالا يفهم ويعد نثرا أو مقالاً .

الأدب العربي اليوم يمثل ما نحن عليه من فوضى وتشتت، القدامى ترجموا عن اليونانيين والفرس والهنود ، ولكنهم لم يترجموا الأدب لأن الأدب يمثل صورة الحياة .

مشكلتنا اليوم أننا أخذنا الأدب الغربي والأجنبي وأردنا أن نكون هم، وهنا الخطأ الفادح.

أكثر شبابنا اليوم لا يستمعون إلى الموسيقى العربية، بل إلى الموسيقى الأجنبية، نحن نقلد الآخرين، وهويتنا ضائعة تقريباً .

غلب التقليد على حياتنا كلها ، نحن مأخوذون بالحضارة الغربية، بكل أنماطها بما فيها الشعر. نحن لم نعد مهمومين بالتعبير عن أنفسنا، بات همنا تقليد الآخرين، لا أدري ما إذا كنت مخطئاً؟

دراسات أدبية

شوقي بزيع وجهاد فاضل
نزار قباني: الشعر معادل الحياة، والجسد قبَّة الروح
شاعر المرأة لا شاعر الأمة
جاء نزار قباني إلى العالم في الحادي والعشرين من مارس “آذار” عام 1923 م، ورحل عنه في نهاية أبريل “نيسان” عام 1998 م، خمسة وسبعون عاماً بالتمام والكمال هي مجمل رحلته المليئة بالأحداث والمفتوحة على المغامرة، رحلة استهلها بالربيع وختمها بالربيع، كان يمكن للتاريخ أن يكون مجرد مصادفة بين ملايين المصادفات لو أن الشخص المعني بالأمر لم يكن نزار قباني، فنزار جعل من حياته كلها ربيعا مثمرا وموازيا لحياته وموته، لقد نقل المصادفة إلى مرتبة الضرورة وراح يضيع من شعره وتجربته وطريقة عيشه ذلك الربيع الآخر الذي لن تئول زهوره هذه المرة إلى الذبول.

أول ما يتبادر الى الذهن عند رحيل شاعر ما، وبعد انفضاض الغبار الناجم عن حضوره الشخصي في العالم، هو السؤال عما إذا كان قد استطاع أن يدفع العالم مترا واحدا الى الأمام، أو استطاع أن يغير هذه الكرة التي حملته على ظهرها سنوات طويلة قبل أن تبتلعه من جديد، أو استطاع أن يغير شيئا في الذائقة الشعرية ويضيف لمسته الخاصة إلى هذه الأرض المتعبة من الدوران، فالشاعر الحقيقي هو راء كبيرا وهو خالق نماذج ورائد تغيير وإلا لكان مجرد حادثة عابرة على طريق الموت.

لهذا السبب رأى الشاعر والناقد الإنجليزي ت.س اليوت أن الشعراء العظام لا يأتون إلى هذه الأرض إلا مرة كل قرن أو أكثر وسمى من بين هؤلاء قلة نادرة كهوميروس وفيرجيل ودانتي وشكسبير وغوتة وبوشكين، وذلك أن الشعر في بعده العميق هو تعبير عن روح الأمة وإعادة صياغة مستمرة لوجدانها ورغبتها في التجاوز والانعتاق، وما لم يسهم الشاعر في هذه الصياغة وذلك التعبير فلن يكون سوى واحد من الشعراء المتواضعين أو النظامين الصغار الذين يلمون بقواعد النظم كما يلم النحاة بقواعد اللغة امتلاك للنار التي سرقها بروميثيوس من الآلهة أساطير اليونان.

الشاعر الحقيقي بهذا المعنى هو مفجر لغة وصانع أشكال ومغير أذواق وليس مدبج عبارات وموضوعات إنشاء وقصائد مناسبات تكتب تحت الطلب وتكتفي من الثمرة بالقشرة ومن النفوس بالطرب الخارجي ومن الأيدي بالتصفيق.

مؤثرات عابرة
لهذا السبب ربما يحتاج الشعر إلى فترة زمنية معقولة لكي يحكم له أو عليه بعيداً عن المؤثرات السطحية العابرة، وعن الحضور الشخصي للشاعر ينبغي على الشاعر أن يتوارى قليلا وأن يسحب حضوره من التداول لكن يتقدم شعره إلى ساحة التقويم والنقد عارياً من أي بهرجة أو زوائد، خاصة في هذا الزمن الذي تضيع فيه المعايير وتسود الفوضى وتتعرض ساحة الشعر للانتهاك والبلبلة وفساد القيم واختلاطها بشكل لم يسبق له مثيل، وهو ما أسهم بالإضافة إلى عوامل أخرى لا سبيل إلى ذكرها الآن، في انفضاض الناس عن الشعر ولا مبالتهم إزاءه، ذلك أن معظمهم لم يعد يرى في ما كان ذات يوم ديوان العرب صورته ومثاله وملاذه من الجفاف واليأس، ولكن نزار قباني، على النقيض من هذه الصورة، استطاع ان يشكل ظاهرة فريدة سيحتاج النقاد والدارسون الى سنوات طويلة لكي يتبينوا معالمها ويقفوا على سر علاقتها النادرة بالجمهور، ففي زمن عزلة الشعر وانحساره، وفي زمن يكاد الشعراء يصبحون فيها أيتام قومهم يتقدم نزار قباني ليحتل واجهة المشهد بكاملها ويحلق حوله الملايين من الشعراء والمتابعين والمعجبين من كل المشارب والأعمار والطبقات والشرائح. قد يقول قائل هنا بأن الرواج ليس بالضرورة رديف الجودة والأهمية في كل الأوقات، ولكن الرواج بالمقابل ليس دائما رديف الرداءة والسطحية والاستهلاك العابر، يقول قائل آخر. وبين هذا القائل وذاك استطاع نزار قباني أن يملأ الدنيا ويشغل الناس على امتداد ما يزيد على نصف قرن كان خلالها أحد أكثر الناس إقلاقا وإثارة للجدل وخضا لمياه هذه الحياة العربية الراكدة.

هل يمكن والحالة هذه أن تكون ظاهرة نزار قباني مجرد ظاهرة آنية عابرة؟. هل موضوعة الجنس وحدها هي التي رفعت الشاعر إلى الذري التي بلغها وأنزلت شعره عن رفوف المكتبات وأكوام الغبار لكي يتوسط المقاعد والأسرة والصالونات وينام تحت ملايين الوسائد؟، ولماذا لم تستطع خمسون عاما من الحروب والثورات والانقلابات والكوارث العربية أن تسقط نزار قباني عن عرش الشعر وأن تثبت راهنيته وبطلانه وعزفه على وتر الغرائز، فيما لو صحت هذه التهم؟، هل شعر نزار قباني نجمة تزداد الحاجة إلى لمعانها كلما قدمت أم هو مثل بعض الصحون والكئوس التي تقدم فيها الوجبات الأمريكية السريعة مرة واحدة ثم ترمى بعد ذلك في سلة المهملات؟ لا شك بأن رحيل نزار قباني سيفتح الباب على مثل ذا الأسئلة وغيرها بعد أن استنفدت التجربة بالكامل وانطوى صاحبها وراء الغياهب والحجب تاركا لنا أن نقوم شعره بحيادية ونزاهة بعيدا عن النفاق المرائي أو العداء الأعمى، ولست أزعم في هذه الحالة أنني سأجيب عن كل هذه الأسئلة التي تتطلب قراءات وأبحاثا طويلة ولكن ذلك لا يمنع من مقاربة أولية لأبعاد هذه التجربة التي انطبعت كالوشم على جسد الحياة العربية المعاصرة.

تغيير مؤثر
بادئ ذي بدء أشير في إجابة على السؤال المطروح في بداية المقالة، إلى أن العالم العربي بعد نزار قباني ليس هو نفسه العالم الذي كان قبل ولادته، لا المرأة هي نفسها ولا الرجل، لا التلميذة ولا العاشقة، لا اللغة ولا القيم، ثمة شيء تغير بالطبع، وإذا كان العصر برمته قد أسهم في حدوث هذا التغير فإن حصة نزار مما حدث كبيرة ومؤثرة دون شك. كانت المرأة العربية قبل نزار أقل جمالا مما هي عند رحيله، لا بالمعنى السطحي للكلمة بل بالمعنى الرمزي والعميق، فشعره ومواقفه الجريئة أعادا الاعتبار للجسد الإنساني وعملا على تحريره من الخوف والبشاعة والعجز المتراكم، إذ إن الجسد مع نزار لم يعد نقيصـة أو معصية أو محلا، للإثم وحده، بل أصبح كما رأى القديس بالاماس “قبة الروح” وتاجها الأجمل، أو هـو “خيمة الروح” وفق تعبير المتصوف الإسلامي الشهير جلال الدين الرومي، هذا الإعلاء للجسد هـو الإنجاز الأهم لنزار قبانى، بعد إنجاز اللغة، ولا يمكن بالتالي قراءة شاعر”طفولة نهد”، و”قالت لي السمراء” خارج الرؤية الأبيقورية التي فتحت المجال واسعا أمام الفرح والبهجة وتركتهما يتسللان إلى قلب القصيدة العربية المثخنة بالحسرات والندب المتواصل، أما الذين لا يرون في شعر نزار قباني سوى التركيز المستمر على عناصر الإثارة ودغدغة الغرائز والشهوات فهم يظلمونه بالطبع لأنهم لا يرون من تجربته سوى سطحها ينتقون من مفرداته سوى ما يلائم نظرتهم الأخلاقية الى الشعر. وهذا النوع من التعامل التشريحي معطوفا على المعيار الأخلاقي المرتبط بالأيديولوجيا الدينية سيفعل بالقصيدة ما يفعله الديناميت في البحر وستطفو المفردات “الإباحية” كالنهد والبطن والردف والساقين وغيرها كالسمك الميت علي سطح الكتابة ذلك أن تجريد هذه المفردات من سياق التجربة النزارية القائمة على تحرير الجسد من لواحق المكبوتات والتابوهات وسائر القيود والأغلال سيجعلها تبدو نافرة بالطبع ويحصرها بالتالي في دائرة الإثارة السطحية ودغدغة المشاعر.

كما أن إسقاط الأحكام الأخلاقية على الأدب وجعله مقياسا لجودته وأهميته تدفع بمعظم التراث العربي إلى سلة المهملات وتعدم القسط الأكبر من نتاج “أمرئ القيس، وعمرو بن أبي ربيعة والوليد بن يزيد وأبي نواس وغيرهم الكثيرين من عمالقة الشعر العربي، وهو أمر لم يسمح الأسلاف بحدوثه حتى في أكثر المراحل تزمتاً وحراجة، لقد كان آباؤنا واسعي الصدر أكثر بكثير مما نحن عليه اليوم، إذ أليس من اللافت أن يتسع صدر هؤلاء الأسلاف لشاعر ماجن وعاشق متجرئ كعمر بن أبي ربيعة فيما الإسلام لا يزال في قمة صعوده وازدهاره؟. أوليس من اللافت أيضاً أن تغص كتابتنا العربية شعراً أو نثراً بشتى صنوف الموضوعات والتعابير الإباحية والمكشوفة والتي نراها مبثوثة في كتب ألف ليلة وليلة ونزهة المشتاق والروض العاطر وأشعار أبي وبشار وصولا إلى كتابات المحافظين كالجاحظ أبي حيان التوحيدي!. إن الأدب في جوهره قائم على تحرير المكبوت وإطلاقه من عقاله وعلى تفخيخ الوعي وتفجيره من اجل الكشف عما يقبع تحته من طبقات اللا وعي والمسكوت عنه من الرغبات والنوازع. من هنا اسهمت الثورة الفرويدية اشد الإسهام في التخلص من الممنوع وفي نبش خرائب الروح وإطلاق ثورة الجسد حتى نهاياتها، وقد أسهمت الحربان العالميتان الأولى والثانية في تأجيج هذه الثورة وفي تأمين الرياح المناسبة لوصول النار إلى آخر منطقة في هشير الرغبات الكامنة، وقد كانت الحداثة الشعرية العربية إحدى نتاجات هذه الرياح التي صوبت العالم بأسره وخلخلت قيمه السائدة، لكن المتابع لهذه الحداثة سيلفته دون شك خلوها من الحب إلى حد بعيد وتمحورها حول الثورة والانبعاث، أو سمي بالنزعة التموزية يومذاك، جاءت تجربة نزار قباني في تلك الفترة مترافقة مع صيحات الحداثة الأولى التي أطلقها بدر شاكر السياب ونازك الملائكة عبد الوهاب البياتي وآخرون غيرهم، وبرغم أن هذه التجربة نحت منحى مستقلا ومختلفا على مستوى لهم والقضية والشكل فقد كانت في جوهرها استكمالا لتجربة الحداثة العراقية ومحاولة لسد النقص الناجم عن غياب موضوعة المرأة والجسد والحب عن القصيدة العربية الحديثة، فنزار رأى أن لا حداثة حقيقية وعميقة في ظل احتجاب المرأة وتغييبها، وأن لا حرية كاملة إلا بتحرير الأنوثة والكف عن اعتقالها بدواعي القيم الدينية والأخلاقية والاجتماعية، وظل نزار قباني أمينا لمشروعه ال شعري والرؤيوي حتى الرمق الأخير من حياته.

مفهوم الشعر

وبالعودة إلى الأبعاد الجسدية في شعر نزار قباني تنبغي الإشارة إلى أن هذا البعد لا يتصل بالجسد الأنثوي وحده بل هو جزء لا يتجزأ من مفهوم مميز للشعر يبتعد عن التجريد الذهني والعمليات الفكرية الباردة التي تتولد عن احتكاك اللغة بنفسها لا عن احتكاكها بالحياة، في حين أن نزار يميل الى جسدنة الصور وحقنها بالمشاهد الحسية القابلة دائما لان ترى بالعين وتسمع بالأذن وتشم بالأنف وتلمس بالأنامل. إنه يكسو عباراته دائما باللحم والدم ويمدها بأسباب الحياة وكهرباء اللحظة المعيشة فنحس لها دبيباً في أوصالنا شبيها بدبيب الخمرة في قصيدة الأخطل، لذلك ثمة فرق كبير بين رؤية سعيد عقل لجسد المرآة ورؤية نزار قباني للجسد نفسه، فالأول يخاطب جسداً لا يقيم إلا في الأفكار والذهن البارد والمجرد والثاني يرى الجسد في أدق تفاصيله ويتناوله بحواسه الخمس ورغباته الإنسانية الحقيقية. على أن صورة المرأة عند نزار لا تنحبس داخل إطارها الجسدي الشهواني كما يرى البعض فهي كثيراً ما تخرج من بعدها البيولوجي الصرف لتدخل في أبعاد كونية متشعبة وتتداخل ظلالها الرمزية مع كائنات العالم وأقاليمة وأشيائه. تصبح رمزا لحضارات وقيم وتواريخ وتتخالط وجوهـها مع وجوه المدن التي تسكنها أو تتوحد بها في حالات الوجد والانحطاط، أو يتداخل جسدها الأنثوي بأنوثة اللغة نفسها في حوار غريب ومدهش بين الكلمات والأعضاء وبين الزمان والمكان.

تغيير الذائقة
غير أن شعبية نزار قباني لا تتغذى من براعته في استخدام الصورة ولا من دغدغة موضوعاته للمكبوت الجمعي الذي يضغط بكل قوة على مشاعر البشر ويشل الكثير من طاقاتهم وقدراتهم بل ثمة عوامل أخرى لا تقل أهمية وتأثيرا عن هذين العاملين، وتأتي اللغة الشعرية في طليعة هذه العوامل، فكما أدسهم نزار في تغيير الذائقة الجمالية وفي رفع منسوب الأنوثة والجمال إلى حدودهما القصوى فإنه أسهم بالقدر نفسه في تخليص اللغة الشعرية العربية من التقعر والبلادة القاموسية الجامدة والتكلف اللفظي وجعلها أكثر طواعية ودفئا مما كانت عليه، فلغته أيضا هي على النقيض من لغة سعيد عقل لم تتغذ من إقطاعية محافظة وصارمة بل هي تعبير عن التململ الاجتماعي الذي أدى إلى صعود البرجوازية وتسنمها سدة الحكم ومقاليد الاقتصاد والثقافة مع كل ما رافق ذلك من بلورة لمفاهيم الديمقراطية والحرية والتنوع الثقافي.

أصبحت لغة نزار قباني بهذا المعنى لغة الحياة اليومية بكل ما تحمله من تعبيرات ومواقف ومفارقات، إنها لغة المقهى والشارع والحانوت وسيارة الأجرة بقدر ما هي لغة الثقافة والفكر وقيم العصر.

لقد أزال نزار قباني الحواجز بين الشعر والنثر، وبين ما كان يعتبر في السابق لغة شعرية وما كان يعتبر من عدة النثر وعديده. هكذا دخلت الحياة كلها إلى القصيدة، الحياة بقضها وقضيضها، بعمالها وفلاحيها وطلابها ومثقفيها وتجارها وغليان شوارعها اليومي، ولم يعد الشعر مقتصراً على ارستقراطي الوجاهة والثروة والثقافة بل بات كما أراده نزار رديفا للخبز والهواء والحرية، وباتت القصيدة تتسع لألفاظ ومفردات كانت تعتبر حتى وقت قريب سوقية ومبتذلة مثل: المنافض، الولاعات، الجرائد، الموكيت، الأنابيب، الكومبيوترات، وغيرها من أدوات الزينة والعطور والملابس والمأكل، من هنا يمكن أن نفهم قول نزار في إحدى مقالاته: “كانت لغة الشعر متعالية، متعجرفة، بيروقراطية، بروتوكولية، لا تصافح الناس إلا بالقفازات البيضاء ثم رفعت الكلفة بيني وبين لغة “لسان العرب” و “محيط المحيط””.

هذه الثورة اللغوية التي قادها نزار قباني هي مكنته من احتلال موقعه المميز في حركة الشعر الحديث ومن ترك بصماته الخاصة على القصيدة العربية، وإذا كانت هذه الثورة قد تقاطعت مع الحداثة الأخرى الموازية التي اشترك في صياغتها شعراء آخرون كأدونيس والسياب والبياتي وحجازي وعبد الصبور وأنسي الحاج والماغوط ودرويش وغيرهم فإن نزار قباني احتفظ لنفسه بمسافة عن كل هؤلاء حين قاد حداثة بعيدا عن النخبوية والتعقيد والكشوف الداخلية الصعبة ونحا بها إلى لغة مبسطة ومفهومة تستفيد كثيرا من لغة المشافهة والخطاب اليومي، لقد أراد نزار أن يقطف مباشرة من أفواه الناس وأحاسيسهم مما جعله يمشي عكس التيار ويأخذ موقفا معاديا من مسألة تفجير اللغة والإيغال في الإبهام والتعمية، وهو ما يفسر بعض التشنج الذي حكم علاقات الشاعر بالعديد من مجايليه أو ممن جاء بعده من الشعراء والنقاد المحدثين الذين اتهموه بالسطحية والمباشرة واللعب على مشاعر الجماعة، وأتهمهم بدوره بالمغامرة المجانية وقلة الموهبة وحتى بالإرهاب في بعض الأحيان يقول نزار: “إنني مع الولادة الطبيعية وضد العمليات القيصرية، اللغة تتطور يوميا وبشكل طبيعي بإمكاننا أن ننسف لغة كما ننسف وإلا اصبحنا إرهابيين”، والطريف أن مفهوم نزار للغة يلتقي عن عمد أو غير عمد مع مفهوم ت. س أحد أبرز رواد الحداثة الغربية ومنظريها، الذي يرى أن “على الشعر أن يعين لا على صقل لغة العصر فحسب بل على الحيلولة دون تغيرها بسرعة مفرطة فإن تطور اللغة بسرعة كبيرة إلى حد الإفراط سيكون تطورا بمعنى التدهور التقدمي”.

منمنمة شعرية

إضافة إلى ما تقدم يشكل الإيقاع وطريقة استخدام البحور والأوزان والتقفية عناصر بارزة في لملمة القصيدة القبانية ومنعها من التشتت والتشظي عبر تحويلها إلى ما يشبه المنمنمة الشعرية، وقد يعود الفضل في ذلك، إضافة إلى الموهبة بالطبع، إلى طفولة الشاعر الذي شغف منذ نعومة أظفاره بفني الرسم والموسيقى، كما يروي بنفسه في كتابه. “سيرتي مع الشعر”.

كان نزار شغوفا بالعزف إلى حد الولع وكان يمرن أنامله باستمرار على بعض الآلات الشرقية الموجودة في بيت العائلة في دمشق قبل أن يجد ضالته في الشعر دون سواه، اذ لعله رأى أن الشعر هو فن الفنون وأنه يتضمن فيما يتضمنه الرسم والموسيقى والنحت والتصوير والتمثيل، وهي فنون عرف الشاعر كيف يفيد منها جميعا ويوظفها في شعره. والإيقاع وفق مفهوم الشاعر ليس وقفا على اختيار البحر أو الوزن فحسب بل هو مناخ شامل ينسحب على الداخل كما على الخارج ويعكس طبيعة التجربة في انفراجها أو توترها، في بساطتها أو تركيبها، في فرحها أو شجنها، ذلك أن نزار يرى في الشعر “رقصا باللغة”، كما يعبر في إحدى مقالاته، ويراه في مناسبات أخرى نوعا من “الموسيقى المقروءة” أو “الضوء المسموع “، وهي آراء تجد مصداقيتها وتعبيراتها في سائر أشعار نزار قباني الذي عرف كيف يفيد من روح المكان الذي نسب إليه وأصغى إلى أدق مخلوقاته وبخاصة في دمشق وبيروت حيث تختلط نداءات الطبيعة الأم بصراخ الباعة في الأسواق، كما تختلط نداءات المآذن بأجراس الكنائس وتتكامل الأصوات مع أصدائها المترامية في كل تجاه لتؤلف أنواعا شتى من الزركشات الصوتية المتصلة بشغاف الروح، لهذا لم يحصر نزار قباني إيقاعه في بحور قليلة بل تنقل برشاقة بين بحور المتدارك والمتقارب والكامل والوافر والرجز، في قصائده التفعيلية الحرة، في حين أن قصائده العمودية انفتحت على سائر البحور الأخرى المتنوعة التفعيلات، وشأنه شأن جده الأول عمر بن أبي ربيعة فقد مال نزار باتجاه البحور الرشيقة الراقصة التي تقرب شعره من روح العصر ومن الذوق مبتعداً عن الجلجلة اللفظية الطنانة والنزوع الإنشادي الملحمي الذي لم ير مبررا له في عصر الكمبيوتر والأقمار الاصطناعية والوجبات السريعة، لذلك لا نرى في شعر نزار انجرافا وراء ألمغامرات الشكلية المستحدثة ولم يمل نحو القصيدة المدورة أو القصيدة المرسلة التي تتتابع أبياتها دون توقف من البداية إلى النهاية، أو قصيدة التغريب والهذيان، وبم غم أنه كتب قصيدة البيت الواحد والقصيدة المختزلة وقصيدة النثر فإن طبعه العام ظل يميل إلى المحافظة والتشدد كي لا يصبح الشعر ساحة سائبة لا تحكمها الحدود والضوابط والقواعد.

التقاط الأنفاس

إن لتركيب القصيدة النزارية وحسن هندستها الفضل الأكبر في اجتذاب المغنين والمغنيات إلى هذه القصيدة ورغبتهم في أدائها الغنائي، وهو ما يفسر اندفاع المغنين الجدد باتجاه قصائد الشاعر ومقطوعاته التي تنسجم إلى حد بعيد مع مفهوم الأغنية المعاصرة وطبيعتها، فالقصائد مواقف وحالات إنسانية تتوزع بين العواطف المختلفة كالحب والهجر والصد والغدر والوفاء والخيانة والملل والشغف والتصميم والتشكيك والصراع الداخلي والمواجهة مع المجتمع أو القدر وكل ما تتمخض عنه الحياة الإنسانية من أوضاع، والقصائد مقطوعات يبرع الشاعر في دوزنتها وتقسيمها واختيار قوافيها الداخلية والخارجية وفي عدم إطالة سطورها وأبياتها مما يسهل على المغنين التقاط أنفاسهم والتحكم بطبقاتهم الصوتية، كما يعمد الشاعر الى تكرار الصيغ والجمل المي تسهم في تأكيد المعنى من جهة وفي خلق مساحات صوتية متماثلة تتحول عند المغنين إلى لازمة غنائية لا بد منها.

ثمة ميزة أخرى يمكن الإشارة إليها في سياق الحديث عن شعر نزار قباني وهي تتعلق بالبنية القصصية لهذا الشعر الذي عرف صاحبه كيف يوظف الحكاية والقصة القصيرة بمهارة وكيف يفيد إلى أبعد الحدود من عناصر السرد والأخبار والحوار والقص، فالقصيدة النزارية لا تنبني حول الأفكار والصور الجمالية المبهمة والمجردة، بل حول البشر والعلاقات الإنسانية والحيوات المسكونة باللحم والدم، وأعتقد أن جزءا من حيوية هذه القصيدة يعود إلى ترابطها العضوي وتآلف عناصرهـا عبر ذلك الخيط السردي الذي يمدها بأسباب التشويق والإمتاع ولفت اهتمام القارئ.

بعيدا عن الشعر السياسي
لم تتطرق هذه المقالة إلى الشعر السياسي عند نزار قباني لأن ذلك يتطلب مقالة أخرى منفصلة، خاصة وأن هذا الجانب من تجربة نزار أثار الكثير من اللغط والمواقف المتباينة لكنني أعتقد أن كلا من الشعر السياسي والعاطفي عند الشاعر يصدران عن حركة احتجاجية واحدة وعن نغمة واحدة على الواقع المتردي وسعي إلى فضحه وتعريته. ومع ذلك فإن قيمة نزار الأساسية في رأيي، هي في قصائده العاطفية وفي موضوعة المرأة والحب التي احتلت كيانه إلى حد بعيد، صحيح أن قصائده السياسية انشغلت بهجاء الواقع العربي والنقمة عليه ولكن هذه القصائد صيغت من الأدوات نفسها التي صيغت بواسطتها قصائد الحب، سواء على مستوى التقنية والتركيب والسرد الإخباري وتلوين الجمل أو على مستوى اللغة والمفردات، كان يمكن لقصيدة “خبز وحشيش وقمر” المميزة أن تشكل أساسا لحركة اعتراض عميقة لدى الشاعر لا على صعيد الرؤية السياسية فحسب بل على صعيد المعالجة الفنية والدينامية الداخلية للصور والأحاسيس ولكن القصائد السياسية اللاحقة ظلت تدور حول الخطاب الهجائي نفسه بدلا من المتابعة الداخلية لحركة الواقع والبحث عن الخلل العميق الذي يضرب الذات العربية في صميمها.

الأمر الأخير الذي أريد الإشارة إليه هو تجربة نزار كفت عن تجديد نفسها منذ حوالي العقدين من الزمن بحيث أن ما كتبه الشاعر في السنوات الأخيرة ليس سوى استعادة مجردة لما تم إنجازه من قبل، كانت الموضوعات نفسها تتكرر في كل قصيدة أو مجموعة وكذلك كان الأمر بالنسبة للصورة أو اللغة أو التركيب بحيث أن جل ما قرأناه منذ أواخر السبعينيات بات مراكمة كمية لا تضيف الكثير إلى تجربة الشاعر التي وصلت إلى اكتمالها قبل عشرين عاما، غير أن ذلك لا يضير الشاعر في شيء لأنه استطاع خلال سني تجربته الأولى أن يوقع تحت العبارة التي لا تشبه أحدا سواه، مؤسسا مدرسته ولغته وطريقته في التعبير التي حاول الآلاف ممن أتوا بعده ان يقلدوها دون طائل، وإذا كان إليوت قد اعتبر أن الشاعر يكتب في حياته كلها قصيدة واحدة فإن نزار قباني قد كتب هذه القصيدة بامتياز منذ سطر ديوانه الأولى وحتى رمق حياته الأخير.

نزار قباني
شاعر المرأة
لا شاعر الأمة

لو أراد الناقد أن يختزل عيوب أشعار نزارقباني في كلمات قليلة لقال إن شعرالغزل عنده هو عبارة عن قصيدة غزلية واحدة استمر الشاعر يكررها على مدى نصف قرن أو يزيد.

القصيدة عند نزار ذات طموح محدود، لأنها تقتصر في الأعم الأغلب على تصوير عراك مع نساء يسميهن قططا، لا يعسر على القارئ تصنيف عقولهن ومستوياتهن الاجتماعية. والمناخ السائد في القصيدة هو مناخ المباشرة والمراهقة ووصف محاسن المرأة حتى كأن الشاعر كتب هذه القصيدة وفي ذهنه باستمرار شطر بيت من قصيدة لعباس محمود العقاد يقول فيه : ” خير ما في النساء ساعة ضحك” والقصيدة مصرة على التزام منطقة الحواس وفورات الحواس، مع أن الشاعر كان جديراً وقد لقب بشاعر المرأة، بأن يتجاوز الحواس إلى أفق أرقى، بحيث يتحول شعره إلى أسئلة تمس جوهر العشق وإلى تجربة جوانية من نوع مختلف، وعلى النحو الذي نعرفه لدى كبار الشعراء قديماً وحديثا، أو- على الأقل- على نحو ما توصل إليه شاعر شرقي كلاسيكي هو محمد مهدي الجواهري، الذي ظل يكتب قصيدة الغزل التقليدية ، حتى التقى بسيدة فرنسية تدعى “أنيتا” فانفتح شعره نتيجة تجربة عاصفة معها على فضاءات مختلفة جذريا عن فضاءات شعر الغزل السابق عنده، إذ تحول من وصف للجسد والحس إلى وصف للعاطفة والروح.

ويمكن للناقد أن يلاحظ أيضاً، وبلا مشقة تُذكر، أن الشاعر استمر طيلة حياته ينوع على هذه القصيدة الغزلية الواحدة وكأنه “سيزيف” هذه القصيدة، المصلوب على بابها، التي ما إن يتركها حتى يعود إليها، وكأنها القصيدة الأقرب إلى ذاته والمفضحة عن تلاق دائم في هذه بالذات بين الذكورة والأنوثة، ولو في حالة شجار دائم وكروفر بينهما. ولا ننسى الإشارة إلى أن هذه القصيدة محكومة بنزوات صاحبها، لا ببوصلة ثابتة. فإذا عثر القارئ على فكرة هنا أو هناك تدعو إلى ترقية المرأة الشرقية ووصلها بالحضارة الحديثة، فهو عاثر على مشاهد لا تُحصى لشهريار شرقي رجعي متعامل مع المرأة على أنها متاع أو متعة لا أكثر.

ولكن بالرغم من هذه الفتوح، ومن النجاح الذي صادفه الشاعر في هذا اللون من الشعر الذي أشتهر به، وقد بدأه بديوانيه الأولين “قالت لي السمراء”، و”طفولة نهد”، فإنه لم يقنع بلقب شاعر المرأة، بل طمح إلى الظفر بلقب آخر هو لقب الشاعر السياسي، أو الشاعر القومي، دون أن يكون مهيأ لشروط هذا الشاعر الأخير وأولها التجربة والثقافة السياسية. ذلك أن الشاعر قضى ربع قرن من حياته موظفا في السلك الدبلوماسي السوري في الخارج بعيداً عن ساحات النضال وضرائبه. وعندما تخرج في كلية الحقوق بالجامعة السورية- وكان له من العمر 22 سنة- لم يكن عرف بأي نشاط وطني بين طلبة الجامعة. وتحمل مجموعته الأولى “قالت لي السمراء ” اهتماما بالصبايا لا بالقضايا، سواء كانت هذه القضايا سياسية أو غير سياسية. وبعد ثلاث سنوات على صدور هذه المجموعة تابع هذا النهج فنشر في القاهرة ديوانه “طفولة نهد” والعنوان يشي بمضمونه. إلا إذا استثنينا قصيدته في مدح الزعيم حسني الزعيم، قائد الانقلاب الأول في سوريا، وتعاملنا معها على أنها قصيدة قومية أو سياسية، وهي ليست كذلك، فما هي سوى تحية حارة وساذجة من موظف لرئيس بلاده نشرتها صحف دمشق في حينه وطواها الشاعر لاحقا فلم يضمها ديوان له.

إلى بيروت

وعندما ترك نزار قباني وظيفته كموظف دبلوساسي لبلاده في الخارج اختار بيروت مكانا لإقامته.- كانت بيروت في تلك الفترة مدينة مزدهرة اقتصاديا وتجاريا وفيها فسحة بلا حدود لحرية الرأي والقول. وفي غياب كلي أو شبه كلي للدولة أو للسلطة ازدهرت تجارة الطباعة والنشر وأمنت لمتعاطيها مداخيل مرتفعة. وفي هذه التجارة بالذات أدلى الشاعر نزار قباني بدلوه، فأنشأ في بيروت دار نشر وقفها كلها تقريبا على نشر شعره. ولأن الناشر هنا هو شاعر فقد أضاف إلى عطر الكلمات عطرا في الورق والغلاف والحروف فبات ديوان الشعر شاعريا في شكله، كما هو شاعري في موضوعه. ولكن لأن الشاعر هنا هو ناشر فقد قامت علاقة جزلية في ذاته بين القطبين المتنافرين في غاياتهما ومقاصدها، كان من مظاهرها إلحاح الناشر على الشاعر أن يكتب بغزارة التزاما بروزنامة نشر خاصة أن الشاعر كان فقد مدخوله المادي باستقالته من وظيفته. ولكن لأن لغزارة الإنتاج مساوئها، فقد بان في نتاج الشاعر قصور واضح ظهر في افتقار القصيدة إلى الرؤية الثاقبة ومعاودة النظر.

ولكن الشاعر سيبقى طيلة مرحلته اللاحقة لمرحلة بيروت حزينا على خراب بيروت وخراب مؤسساتها كلها، ومن ضمنها مؤسسته النشرية التي حولته إلى شاعر ثري. ضمنت بيروت للشاعر الخبرة كما ضمنت الثروة، فحق له أن يتعاطف معها في محنتها، وأن يترحم على ماضي أيامها وأيامه الزاهرات في قصيدته المشهورة : ياست الدنيا يا بيروت، ولو أن الكثيرين يجدون فيها من جهة، ملامح القصيدة الكيدية، لأن فيها تعريضا بالمدن العربية الأخرى ، وبالعرب الآخرين المسئولين- في رأيه عن خرابها، كما يجدون فيها الفجيعة بمكان، ضرائبية” كما سيعبر لاحقا أحد المسئولين اللبنانيين، ولكن أي مكان بعد بيروت ومرحلتها، يمكن أن ينبت المال، لا العز- كما كان المتنبي يشترط- هو مكان طيب.

ولكن الجوهي في كل ذلك أن أثر العجلة لا يخفى في قصيدة الشاعر البيروتية، وهي القصيدة التي ذاعت له أكثر من سواها. والشعر لا يسيء شيء إليه، كما يسيء اضطرار الشاعر لكتابته على عجل وعدم معاودته النظر فيه، طلبا لجمال القول في أبعد غاياته- كما كان يقول الشاعر أمين نخلة- ولا ننسى قولاً آخر عميقاً في هذا الباب لـ “بوالو ” في الفن الشعري لم يعره الشاعر عنايته، وهو في هذه الصناعة، أي الشعر، اجعل يدك تمر عشرين مرة، وملّس ونعّم. ثم ملّس ونعّم”.

ضعف القصيدة السياسية

على أن قصيدة نزار قباني الغزلية، البيروتية وغير البيروتية، إذا كانت تشكو من عيوب كثيرة أشرنا إلى بعضها آنفاً، فإن قصيدته السياسية تتضمن ضعفاً قاتلاً لاشفاء منه.

فقد ندر أن كتب قصيدة سياسية لم يسخر فيها من العرب شعباً وتاريخاً ومقومات. لم تخل قصيدة سياسية من الهزء بالبدو والبداوة والعرب الرحل، ومن التصوير الساخر المر لحياة العرب وعاداتهم وطرائق عيشهم وردود أفعالهم. وقد بدأ هذا النمط من الشعر عنده بقصيدة “خبز وحشيش وقمر” وهي قصيدة ضعيفة فنياً وغير مترابطة لم تكتف بإدانة صور من الحياة العربية الاجتماعية، بل تعدت هذه الإدانة إلى المس بالقيم وإلى احتقار الظروف المعيشية للناس عن طريق السخرية من بيوت الفقراء التي لا تصلها الأدوية.

في ليالي الشرق لما
يبلغ البدر تمامه
يتعرى الشرق من كل كرامة ونضال
فالملايين التي تركض من غير نعال
الملايين التي لا تلتقي بالخبز
إلا في الخيال
والتي تسكن في الليل بيوتاً من سُعال
أبدا ما عرفت شكل الدواء

الشاعر هنا يصف وضع ملايين العرب. وقد غسل من هذا الشعب. إن سخريته لا تخفى، تماماً كما لو أنه عالم اجتماع يهودي يتحدث عن عيوب الشخصية العربية ويدينها. ولا أعتقد أن أحدا منا يمكن أن يلوم عالم الاجتماع اليهودي فيما يصف. ولكن كيف لا يلام شاعر عربي يفترض أن يلتصق بشعبه ويحنو عليه عندما لا يطل على آلامه- أي آلام هذا الشعب- إلا من زاوية السخرية بأوضاعه المعيشية والاجتماعية، ناهيك عن السخرية بمعتقداته؟ والسؤال هو هل يفترض بالشاعر أن يلتصق بشعبه، مهما كانت، ظروفه الاجتماعية والمعيشية، أم أن يتبرأ منه انطلاقاً من قسوة هذه الظروف؟ ألا يعترف الشاعر بشعبه إلا إذا كان شعباً اسكندنافياً؟

ولم يجد نزار في يقظة الجزيرة العربية بعد تدفق النفط فيها قبل نصف قرن ما يلفت نظره سوى تلك الصور المقذعة عن العربي الذي يتلهى في عواصم الغرب بالنساء.

فمن يقرأ على سبيل المثال قصيدته الحب والدولار “الجزء الأول من أعماله الكاملة صفحة 445″، “أيا متشقق القدمين يا عبد انفعالاتك، ويا من صارت الزوجات بعضاً من هواياتك “. يجد أن عصر النفط العربي قابل للتلخيص عنده بهذا النموذج، مع أن هناك صوراً كثيرة مشرقة لم تلفت نظره إطلاقاً، منها توفر الجزيرة على نماذج أخرى مشرفة للعربي، على نخب لايمكن الحديث عن حاضر الثقافة العربية العربية والنهضة العربية دونها، وهي نخب ساهمت بشكل أو بآخر في تحويل الجزيرة من مناطق شبه صحراوية إلى مدن وبؤر حضارية.

دفتر النكسة

ويتابع الهزء بالإنسان العربي البسيط في قصائد كثيرة. ففي “هوامش على دفتر النكسة” يرسم صورة العرب كما يلي:

خمسة آلاف سنة
ونحن في السرداب
ذقوننا طويلة
نقودنا مجهولة
عيوننا مرافئ الذباب

وفي مدينة تونس يلقى عام 1980 قصيدة يعلن فيها أنه “متعب بعروبته ” ويتساءل: “فهل العروبةُ لعنةٌ وعقابُ” قبل أن يعلن تهويد مصر وكذب إمامها:

وليست مثل هذه اللغة في الهجاء أو الشتم مقتصرة على قصيدة هنا وقصيدة هناك، فطابع شعره السياسي هو هذه اللغة بالذات، إلا إذا مدح حاكماً أومسئولا عربياً “وقد مدح كثيراً دون أن يجمع مدائحه في كتاب”، فإن لغته ترق وتعذب. عندها يصبح الحاكم أو المسئول صمصاماً أو سيفاً أو “منصورا جديداً” أو واحدا من “النشامى”. ولعلنا لانبالغ إذا قلنا إن نصف المدائح التي قيلت في الرئيس العراقي صدام حسين قالها نزارقباني وكان يمهد لهاعادة بقوله: “يامنصورنا الجديد”.

وتمتلىء مجموعة شعرية له عنوانها “قصائد مغضوب عليها” بمثل هذه اللغة المجانية التي تصطنع الغضب والغيرة عن ظن من الشاعر بأنها ترضي الناس وتجعل منه ناطقاً باسمهم.

بلاد الجنون والصداع

ولا يتخلى لحظة عن وصف الشعوب العربية بما يصفها به عادة الباحثون الغربيون والإسرائيليون. فالبلاد العربية هي “بلاد الجنون والصداع والسعال والبلهارسيا” ومواطنوها “يركضون كالكلاب كل ليلة من عدن لطنجة ومن طنجة إلى عدن”.

ويتفنن في استخدام كلمة “عرب “. فالعرب حيناً “عربان ” “نعت لا مثنى”، والعرب حيناً آخر “أعراب “. والأعراب، كما هو معروف، من سكان البادية وقد وصفهم القرآن الكريم بالنفاق والكفر، ولكنهم كانوا بعض العرب، ولم يكونوا كل العرب.

وينحت، انطلاقاً من كلمة “أعراب” اسماً للوطن العربي. فالوطن العربي اسمه “اعرابيا”. والعرب ليسوا شعباً. فبعد أن كانوا في أبيات سابقة “أمة تبول فوق نفسها كالماشية” تحولوا بعد ذلك إلى “أبقار وحمير” : ملايين تجلس كالأبقار تحت الشاشة الصغيرة وقد حار كثيرون في تفسير هذه اللغة، بل في تفسير نهج شعري وفكري في مخاطبة العرب استمر ما يقرب من ثلث قرن. قال بعضهم، استناداً إلى اللغة والنهج وإلى قرائن أخرى، إن هذا “الخطاب” الموجه إلى العرب هو نسخة حديثة من خطاب قديم اصطلح الباحثون على تسميته بالشعوبية. فالحملة لا تتناول حاكما أو حكاماً بقدر ما تتناول العرب كشعب وكقوم وكأمة. إنها حملة تجرح قيما ومقومات راسخة في الضمير. إنها أشبه بملاحظات رحالة غربي أو يهودي يكره العرب لألف سبب وسبب، ولا يرى فيهم إلا ملامح القبائل الهمجية. وهذا الرحالة يهجو العرب هجاء حقيقياً لا مثيل له في عنفه وضراوته. حتى خطاب الشعوبية القديم كان أرحم في تناول العرب من خطاب نزار. ولكن جوهر الخطاب واحد وهو النيل من إنسانية العرب وكونها إنسانية منحطة غير قابلة للشفاء، والشاعر لا يقدم أي حل، لأنه لم يحسب حسابا للحلول . فالعقل منصرف لهذا التدمير السادي الذي لا لزوم أصلا للوصول إليه إذا كان الشاعر ملتصقاً فعلاً بشعبه، وعالماً أصلا بأسباب علته، وعالماً قبل كل شيء بقوانين التقدم والتخلف، وغير جاهل أولاً وأخيراً بقوانين التاريخ والحضارات.

جلد الذات

قال آخرون إنه لا يجوز تظهير صورة نزار القومية أو السياسية انطلاقاً من هذه القصائد وحدها، ففي قصائد كثيرة يبدو نزار قباني شامياً وأندلسياً وعربياً. لذلك تكون عبارة “جلد الذات” أصلح عنوان عريض لقصائد هجاء العرب التي ذكرنا. فالشاعر في حمى رغبته بالحصول على لقب “الشاعر السياسي” “بعد أن ضاق ذرعاً بلقب شاعر المرأة، أو الشاعر الذي دخل مخدع المرأة ولم يخرج منه”، كتب ما كتب وهو في ذروة الغضب على ما آلت إليه أحوال العرب، أي أحوال شعبه. لقد استخدم الكي في العلاج بعد أن يئس من استخدام العقاقير الأخرى. والكي، مهما كان من ألمه، علاج معروف في الطب، والطبيب يلجأ إليه مضطراً لا لقتل مريض، بل كوسيلة أخيرة بين يديه. فما كتبه نزار عن العرب لا ينطبق عليه وصف الشعوبية، بل وصف “جلد الذات”، وجلد الذات استخدمه شعراء كثيرون غير نزار منهم حافظ إبراهيم الذي كتب عام 1904 مخاطباً مصر:

حطمت اليراع فلا تعجبي
وعفت البيان فلا تعتبي
فما أنت يا مصر دار الأديب
ولا أنت بالبلد الطيب
هي أمة تلهو وشعب يلعبُ

ولكن يلاحظ على هذا القول أو على هذا التفسير لحالة نزار- وهو ما قال به الناقد المصري الكبير رجاء النقاش- يخلط بين “جلد الذات” و”جلد الآخر”. فإذا كان حافظ إبراهيم وقع في حالة “جلد للذات”، فإن نزار قباني جلد بما تقدم “لاذاته” بل ذات “الآخر”.

إن العربي الذي جلده نزار في شعره السياسي ليس “الذات” أي ذات الشاعر، بل “ذاتاً أخرى” انتزع نفسه منها وذلك للعنف البالغ الخالي من الرحمة الذي جلدها، ثم إن جلد حافظ إبراهيم “لذاته” أو “لمصره”، إنما يقع في باب “العتاب” أو “المداعبات”، قياسا على عنف الجلاد” الآخر الذي بدا وكأنه يجلد لا “ذات” شعبه بل “ذات” شعب آخر عدو له. فكيف نفسر بدقة حالة نزار وأين نضع شعره الهجائي هذا؟

أولا يجب الإشارة إلى أن نزار قباني شاعر لا مفكر. هو شاعر المرأة وأشياء المرأة بالدرجة الأولى، لا شاعر الأمة وقضاياها. هو عباس بن الأحنف العصر العباسي، لا المتنبي اليقظ لأحوال أمته، والواضع أذنه علي قلبها العليل والعامل على معالجتها كي تعود إلى مكانتها التي كانت لها. ثم إن هذا الشاعر لم يكن مثقفاً ثقافة سياسية من أي نوع. فلم يكن قارئاً متحجراً، ولم يكن لا قومياً ولا وحدوياً، ولا اشتراكياً ولا يسارياً. لقد كانت له قشرة ثقافية عامة أفادته في إدارة أزمته مع قصيدته ومع أنثاه. فلما فارق مدار الأصلي الأساسي هذا واتجه نحو مدار آخر يتطلب استعدادات خاصة، فقد توازنه. لقد شُبه له طيلة حياته أن “الزاوية” التي استخدمها في مخاطبة شعبه، أو في شعره السياسي، أو في تصوير العرب على الصورة التي صورهم بها، هي زاوية صحيحة، صحيحة فنياً كما، هي صحيحة شعرياً.

والغريب أنه استخدمها دون أن يزيح شعرة واحدة عنها طيلة خمسين سنة تقريبا، ودون أن يعلم أنها ستكون في يوم من الأيام نقطة ضعف أساسية في سيرته ونقطة ضعف أساسية في شعره.

شاعر قرادي!

وبلا تردد، يقول أحد النقاد العرب الكبار، يمكن وصف شعر نزار قباني السياسي، بأنه نوع من “القرادي” لا أكثر ولا أقل، والقرادي لون شعري شعبي يستخدمه شعراء الزجل في لبنان سواء في الهجاء أو في سواه. ولكن لو كان هذا اللون من الشعر قادرا على أن يرقى بصاحبه إلى أعلى المراتب، لكان الشاعر الشعبي العراقي فلان هو أمير الشعر العربي المعاصر.

أخيراً نشير إلى أن لنزار قباني قصائد غزلية جميلة يمكن أن يتشكل منها ديوان مؤلف من مائة أو مائة وخمسين صفحة، ويصدر تحت عنوان “مختارات من شعر نزار” قباني”.

ونزار قباني من حقه أن يطالب ببقائه استناداً إلى هذه المختارات التي بإمكان ناقد عارف بشعره متمتع بحس ذوقي وثقافي رفيع أن يستلها من بين ركام القصائد التي تركها الشاعر، ومن يقدم لها بمقدمة تدل على مكامن الجمال فيها. أما شعره السياسي فينبغي إهماله إهمالاً مطلقاً لرداءته. وبذلك يحسن هذا الناقد إلى الشاعر إحساناً أين منه كلمات وحفلات التأبين التي لا قيمة لها في حسابات البقاء؟

وجها لوجه

غادة السمان وجهاد فاضل

ولادة الأديب كولادة الكمأة، لاندري أي برق يبذرها، وأي رعود توقظها
ظهور ئذ أديب حدث غامض يشبه الجريمة الكاملة إذ يبقى فاعلها الأصلي مجولا
السير الذاتية تزوير للذاكرة وفقا لمقاس أوهامنا
مازلت منذ 14 سنة أقسم كل صباح على العودة إلى وطني، وفي الليل أضم باريس إلى صدري
من قرأ غادة السمان في بواكيرها الأدبية الأولى ومن تابع قراءتها فيما بعد يدرك أن هذه الأديبة الكبيرة تتعب على أدبها كما تتعب الأم على وليدها فتتعهده بعنايتها وحدبها واهتماما حتى يستوى في أحسن تكوين. ولهذه الجهة يمكن القول إن رصيد هذه الكاتبة الكبيرة مستثمر في بورصة الأدب العربي المعاصر منذ ثلث قرن إلى اليوم، فإن غادر منطقة الاستقرار فإلي مزيد من الارتفاع.

أديبة من بلاد الشام، من أقدم مدينة في التاريخ، ومن بيت شامي عريق كل ما فيه يحرض على الأدب، ولكن لا البلاد وحدها، ولا البيوت، مهما كان من أمر جمالها وتحريضها على الأدب، بكافية لتوريد أديبة كبيرة، فلا بد من فاعل أصلي مجهول وغامض في الذات.

عن هذا الفاعل الأصلي المجهول والغامض تتحدث غادة السمان إلى محاورها على الآخر الناقد والصحفي اللبناني المعروف جهاد فاضل.

كيف كانت البدايات؟
من الصعب ألا تكون أديبا في بيلاد الشام، وحينما أتذكر المرحلة التي كبرت في ظلها والمناخات التي احاطت بي أشعر بأن السؤال ليس: كيف صرت أديباً بل: كيف لم تصبح أديباً؟

كل ما في دمشق ذلك الزمان كان دعوة إلى الكتابة. ثمة البت الدمشقي القديم بكل جمالياته وأزهاره وعطوره وأصواته وعراقته وزقاقه الضيف وجيرانه والتاريخ الذي يسيل من الجدران والعيون الأدبية على فقرها، والجوامع والكنائس والأسواق والحكايا. دمشق حكاية تروي الحكايا. كل من فيها كاتب قصة أو قارئ شعر. الجامع الأموي القريب من بيت جدي يروي فسفسارة قصة مع التاريخ والفاتحين والصمود، وتبدو لي حمائمة طيوراً مسحورة تقص روايات الزمن بأصوات رمزية (ينبغي أن يتعلم الكاتب كيف يصغي إليها. ويعيد كتابتها بلغة مقروءة) وكنيسة يوحنا المعمدان تروي حجارتها بفم الذهب قصة دمشق مع الانفتاح والرحابة والاحتفاء بالصوت المغير. لقد طفت بدمشق منذ طفولتي برفقة والدي كما استمعت طويلاً إلى همهمات التاريخ على الأسوار الحجرية لدمشق حيث شيدت بيوت بعض اقربائي من حجارة السور نفسها وبين أبراجه وثمة حكايا أصالة متطايرة في الفضاء بانتظار من يسمعها ويسجلها، وتأتي جدتي الدمشقية الأمية المشعة بذكاء فطري وتتوج تلك المناخات الجمالية والتاريخية بحكاياها الشعبية التراثية. كانت تروي لي قصص ألف ليلة وليلة بلغتها الخاصة المسجوعة الموزونة ونصفها شعر والآخر نثر بعضه عامي وهي لا ترويها كما سمعتها من جدتها بل تدخل عليها لمستها العصرية وتحور في الخاتمة كما يروق لها كأي روائي شهير يعيد كتابة حكاية شعبية. وهكذا “فالطائر الأخضر الشامي الخرافي الذي يمشي ويتبختر” لم تذبحه أمه من وجهة نظر جدتي، ولم يأكله والده واختاه ولكن شبه لهم، فذبحوا طائراً غير بشري كما روت لي، وحين أفاقوا على الندم الفتاك غر الله الهم.

كنت أسمع تلك الحكايا ايضاً من فم عمتي وزوجه عمي وألحظ بإعجاب تحوير جدتي للقصص حين ترويها. وصرت منذ صغري أفكر بتحوير ما أسمعه من حكايا بحثاً عن المغزي أو إلغاء له من أجل جماليات أخلاقية أو عبثية لم أكن أعرف كيف أسميها. كل ما في دمشق حولي كان يتحول إلى قصيدة أو حكاية. خالي الأعمي شاعر اللاذقية المرحوم رشاد رويحه لم أسمعه ينطق إلا شعراً، حتى كنت كلما زرت أخوالي في اللاذقية ومثلت في حضرة خالي رشاد، أخشى أن اخطئ أمامه في اللغة العربية حتى حين نتحاور بما يشبه الفصحى كي لا أندم “ندامة القصعي” وأصير “كحذاء الطنبوري” ولن أنسى فرحتي يوم جاء خالي الشاعر الكبير إياه لحضور ندوتي الأولى في اللاذقية مدينة أمي وكنت في مطلع العشرينيات من عمري وهنأني. ويكفى أن أسرد أمامك أسماء بعض أولاد أخوالي لتعرف في أي مناخ كبرت وبينهم: سمية، هند، نجيب، ميسون، ميادة، قيس، معاوية، مروان وسواهم.

في دمشق لا ينادي الباعة على بضاعتهم بشكل عادي بل شعراً وزجلاً وغزلاً ومنادمة، فبائع الخيار ينادي على “أصابيع الببو” أي “أصابع الطفل” وبائع التفاح ينادي على الخدود الشابة الخجلة وبائع حلوى رمضان لا ينادي على “الجرادئ” وهو اسم الحلوى بل على “اللي رماك الهوى يا ناعم” وقاسيون في الليالي المقمرة يتنهد التاريخ والحكايا وينثر القصص في الريح. والغوطة الدمشقية بأزهارها وأشجارها تروي حكاية غرام الإنسان بجماليات الطبيعة على مر الزمان، أما فروع بردي السبعة فهي “الأخوة كرامازوف الشوام” ولكل حكايته مع تاريخ تلك المدينة العريقة الصامدة وروايات ثوارها على مر العصور وأنت تسمعها من الريح ومن الشوارع وفي الحمامات العامة وتطالعها على لوحات المجد المسطرة أمام أسماء أبطال الحامية الذين رفضوا الانصياع للاستعمار الفرنسي وتم قتلهم في مجزرة لن تنساها دمشق كما لم تنس ما سبقها من مجازر على مر أيامها ثمنا لصمود أقدم مدينة مسكونة على وجه كوكبنا، كما تطالعها على الأضرحة كضريح البطل السوري يوسف العظمة في ميسلون، الرجل الذي كان يعرف أنه مهزوم لكنه حارب ليعطي موته معنى وهي الفكرة التي نال عليها همنغواي جائزة نوبل حين جسدها في روايته “الشيخ والبحر”، وهي التي يثرثر بها الحكواتي الدمشقي كل ليلة ما راوي صندوق الفرجة، ومن دن جوائز أدبية!

ميلاد الأديب
على أن كل ما قلته لك هو بلغة العلوم الشرطة اللازم ولكن غير الكافي لولادة أديب. ولادة الأديب كميلاد الكمأة، لا ندري أي برق يبذرها وأي رعود توقظها من سباتها الغامض الأزلي. يشبه الكاتب وردة الصخر، لا ندري بالضبط لماذا طلعت هنا لا هناك. ولن ندري مثلاً لماذا صار قريبي نزار قباني شاعراً شهيرا بدلا من شقيقه الموهوب إبداعياً أيضاً الدكتور صباح قباني وشقيقه الآخر رشيد ناهيك عن شقيقه “معتز” الذي لم أعرف عنه يوماً أنه عاقر الشعر بالرغم من أنهم كبروا كلهم في المناخ ذاته. لن نعرف يوماً ماهية تلك النبتة الدقيقة التي تشق بسالها قلب الصخر بحثاً عن شمسها الخاصة وقدرها المميز. ويظل ظهور أديب حدثاُ غامضًا شبيها بالجريمة الكاملة إذ يبقى فاعلها الأصلي مجهولاً. وكل ما يمكن قوله هو أن دمشق مكان يستدرج الشعر والنثر ويحرض مجانين الكلمة على الهبوط إلى قاعهم واكتشاف غرف الروح المنسية وحدائقها الداخلية السرية.

كيف تروين ماضيك الشخصي وعلاقتك بالمدن والأشياء والناس؟ أعرف أنك كاتبة حرة، فما هو مفهومك لعبارة الحرية؟

(أحتفظ) على كل ما أقوله عن الماضي- ماضي الشخصي، كما ماضي الذين عرفتهم، لأنني بعد أن أقوله وأكتبه أتساءل: ترى هل حدث الأمر على هذا النحو؟ هل حدث ذلك حقاً؟ أقرأ بحسد حديث الناس الواثق الحازم عن الماضي، ماضيهم أو ما يدعي بالمذاكرات والسير الذاتية، فأجدها لا تروي إلا انتصارات الذات وعظمتها و”ضآلة” الآخرين أمامها وأشعر بالدهشة، هل حدث ذلك كله حقاً أم أننا نقوم بتزوير ذاكرتنا- دون أن ندري دائماً ونزورها على مقاس أوهامنا عن ذاتنا أو صورتنا التي نحب أن نكون عليها ونريد أن نظهر بها أمام الآخرين؟

وأين تنتهي الحقيقة التي حدثت وعليها شهود مازالوا أحياء، وأين تبدأ تلك الذكريات الملتبسة الآتية من ذاكرة خيالية وأوهام حقيقية اخترعناها وصدقناها حماية “للأنا” أو عشقاً نرجسياً أو ضعفاً بشرياً أو تيها في مستنقع الرمال المتحركة للمصالح والأمزجة والشهوات؟

بكثير من الحذر أتحدث عن الماضي، وأدقق فيه كما يدقق عالم الآثار العاشق للحقيقة في المادة الضئيلة بين يديه، أستعين دائما بحبي المفرط للحقيقة لألجم “نرجس” المقيم في قاع البشر جميعاً، وأخص بالذكر أولئك الذي لا يعترفون بحضوره وينزهون أنفسهم عنه ويحاضرون عن “الغيرية” والآخرين ويخفون “الأنا” في غرفة مبطنة بالمطاط في مصح عقلي داخل دهاليز أرواحهم.

ضمن إطار هذا التحفظ المبدئي سأجيبك بإيجاز على سؤالك.

أصدرت في “مرحلة دمشق” كتابي الأول “عيناك قدري 1962” وكتبت وأنا ما أزال في دمشق “لا بحر في بيروت” وهي مجموعة قصصية صدرت وأنا طالبة ماجستير في الجامعة الأمريكية ومقيمة في بيروت، كما كتبت في فترة إقامتي الأولي تلك “ليلة الغرباء” إثر صدمة زيارتي الأولى لأخي في لندن. أصدرت فيما بعد في بيروت عشرات من كتبي، ولكن “مرحلة دمشق” لا يمكن أن تقاس بعدد ما أصدرته من أعمال، لأن كل عمل صدر لي وسيصدر مدين لدمشق بالكثير.

في مرحلة دمشق امتلكت أدواتي الفنية وخلفيتي التراثية وأسلحتي الفكرية وانتمائي القومي و”جيناتي” العروبية وهي ثوابت روحية لم تزدها التجارب إلا رسوخاً. أحببت دمشق ذات يوم حباً عنيفا أهوج مراهقاً وكانلا مفر من شجار العشاق بيننا في ذلك الزمان حين كان الحب مرادفا للقتل، وإلا فعليك أن تشبه مدينتك حتى الامحاء، واشتبكت مع مناخها المحافظ الذي كان تقليديا حتى حود الخلط بين الخرافة والمقدس. في محلة بيروت تعلمت كل ما علىالكاتب أن يعرفه إذا أراد الاستمرار والتطور، غرامي بلبنان كان هادئا عميقا وشبه ناضج إذ إنه يرى المحبوب كما هو على علاته وحبه ضمن شروطه ولا يريد منه الكمال المستحيل.

لعلى في مرحلة باريس مارست لعبة خداع الذات ومازلت، فقد أدعيت لنفسي أنني في إجازة من الحرب، وحياتي الباريسية “مؤقتة” وبمنزلةدورة دارسية ثقافية، وكنت صادقة في (كذبتي) هذه: وها أنا هنا منذ أربعة عشر عاماً، أقسم كل صباح على العودة إلى الوطن، وفي الليل أضم باريس إلى صدري وأنام. ثمة لحظات أجد لنفسي فيها الأعذار من نمط أن دراسة أبني حازم وضرورات عمل زوجي يفرضان علي البقاء وأنني لم أختر شيئاً حقا- وهذا صحيح لكنني اضبط نفسي بين وقت وآخر متلبسة بالاستمتاع بباريس الحرية الفكرية والجماليات الثقافية هانئة بهذا المنفى البديع (أجمل منفى في العالم) ولا أفعل الكثير لتبديل مسار قدري كما هي عادتي مع أقدار أخرى لي عاندتها.

أتساءل أحيانًا: ما الذي قذف بي من دمشق إلى بيروت فلندن فبيروت ثانية فباريس، وأي أقدار ترسم مصائرنا؟ وهل أنا مسيرة أم مخيرة؟

أسئلة كثيرة لا تنفي وجود ملامح لبعض الأجوبة. منها مثلاً أن الإنسان شبيه بلعبة الكلمات المتقاطعة وأن “كلمة السر” تختلف بين شخص وآخر لكنها الكلمة “المفتاح”.

يخيل إلي أنني في كل ما كتبته وفعلته ورحلته وتشردته وأحببته وكرهته وطاردته ونفرت منه، في كل تنهيدة في صدري ودمعة في عيني وابتسامة على شفتي كنت أتصرف بوحي من كلمة “الحرية”.

أعرف أن الحرية كلمة سيئة السمعة، وبعض الناس يراها من منظار شهواته المكبوتة التي ليست كلها فكرية أو روحية، لكنني لم أخف يوماً منها، وضقت ذرعاً بها مرات وتساءلت كيف أتحرر من حريتي- فالحرية تتحول إلى سجن موحش أحياناً- وتشاجرت معها لكنني لم أتخل عنها.

يخيل إلي أن مساري كان دوما يدور حول كوكب الحرية. ولعلي غادرت دمشق هرباً من ديكتاتورية الحب التي لا تخلو من القسوة وتمارسها أحياناً مدينة بأكملها عليك كما يمارسها بعض الأفراد.

ديكتاتورية الحب تسلبك حق الخطأ، وحق الاكتشاف وحق الحيرة وحق طرح الأسئلة وتقدم لك حياتك جاهزة كثوب ثمين كل ما عليك أن تفعله هو أن تغلق عينيك وترتديه وتستسلم لتلك اللعبة السائدة. والمأساة أن (الرجعية) ليست وحدها التي تحبك بهذا الأسلوب، بل إن (الثورية) تمارس عليك شيئاً مشابها تقليدي النمط تقدمي الشعارات. وهكذا حدث الصدام الصامت بيني وبين مدينتي الحبيبة ومجتمعي وعالمي، التقليدي منه والثوري، وكانت نقطة الاحتكاك ربيع عام 1963 لضرورة الحصول على إذن للسفر كلما فكرت بركوب الطائرة إلى القاهرة أو زيارة بيروت (لم أكن قد سافرت يومها إلى أبعد من ذلك). كنت أصغر سناً في تلكالفترة من أن أطيق سواء الممارسة الرجعية و(الثورية) معاً وشعرت بأنني أختنق وبأن عمامة الشيخ “س” لا تختلف كثيراً عن القبعة العسكرية للملازم “ط أبوع” الذي كان علي الحصول على إذن منه لمغادرة دمشق ولو ليوم واحد في بيروت. فرحلت ولم أعد. أطلعني بعدها بأشهر صديق والدي المرحوم كامل مروة في جريدته الحياة على اعترافات لمتهمين بالعمل في شبكة إرهابية نشرها وجاء فيها أنه كان من مهماتهم اختطافي وإعادتي إلى دمشق من بيروت (عام 1965) وثمة طبيب (ثوري) كان صديقاً لي، عرفت من الاعترافات أن من مهامة تخديري بعد خطفي تمهيداً لإعادتي إلى دمشق كما لو كنت “ماتاهاري الشامية” وأنا لا في العير ولا في النفير. وتقرر بعد ذلك الخلاص من شغبي بذريعة أخرى، وهكذا- فور وفاة والدي- صدر الحكم بشجني لمدة ثلاثة أشهر لأنني غادرت دمشق دونما إذن مسبق وأنا من حملة الشهادات العالية، وجاء (ابن حلال) لبناني لديه سبب شخصي للنقمة علي وتكرم بتبليغ الحكم إلى المطار، ولكنني كنت ق-د رحلت إلى لندن وبعد سلسلة من الحكايات الشبيهة بالمغامرات عدت إلى بيروت وأصدر رئيس البلاد في سوريا عام 1970 عفواً عاماً شملني.

في تلك الفترة أستقر شقيقي الوحيد، العالي سلمان في الغربة وتزوج من بريطانية ولم يعد إلى الوطن أبداً منذ الستينيات. وتوافرت لي الفرص ذاتها لكنني صارحت أخي بعجزي عن الزواج من أجنبي (مزاج) وبأنني لا أستطيع العيش بعيداً عن الوطن أو عن جاذبيته الأرضية، فمن دونه أتحول إلى بالون منفوخ هائم في الفضاء الكوني والفراغ المطلق حتى اللانهاية. إنه الجحيم في نظري فأنا بحاجة إلى مجتمعي الذي أتشاجر معه لكنني جزء منه وأنتمي إليه. نصحني شقيقي بأن أبقى معه وأكتب بالإنجليزية التي أقتنها، وكدت أبداً العمل في منبر صحفي غربي كبير في لندن، لكنني أدركت أيضاً أنني أحلم بالعربية وأهذي بالعربية وسأحتضر ذات يوم وألفظ أنفاسي الاخيرة بلغة الأجداد وستظل جذوري كلها هناك في دمشق واللاذقية مدينة أمي وبيروت وكل أرض عربية عرفتها وأحببتها أو سأحبها حين أعرفها. وهكذا قررت العودة إلى عالمي والشجار معه ومناكدته والالتحام به حباً وكراهية، قبولاً ورفضا حتى النفس الأخير، فقد اكتشفت أن من شروط الحرية: الانتماء وأنا مازلت أنتمي العباءة جدي وياسمين بيتي الدمشقي وبحر بيروت الأزلي.

أول فعل حرية قمت به حتى قبل إقامتي في بيروت هو التفتيش عن عمل فيها بعدما قبلتني الجامعة الأمريكية طالبة للماجستير لم أكن في ذلك الزمان أعرف عقلانياً أن الحرية الاقتصادية هي الشرط الأول للتحرر، لكنني كنت أعي تلك الحقيقة وأحدسها تماماً كما يعي المرء أنه سيموت إذا لم يتنفس (دون محاضرات حول ذلك) ثم إنني كنت قد بدأت العمل وأنافي دمشق، وصحيح أن والدي كان منعني من الإنفاق على البيت، وكان راتبي مرصوداً (للبودرة والحمرة) كما كانوا يقولون يومها في دمشق وغيرها من المدن العربية ساخرين من عمل المرأة، إلا أنني في مرحلة بيروت اعتمدت على نفسي في معيشتي ونفقاتي دون أن أكون مقيمة في بيت أبي وخادمتان تقومان على خدمتي كما كانت حالي عنده. أما الغرفة التي أفردت لي في إحدى ثانويات لبنان حيث قمت بالتدريس لأسابيع فكانت أصغر حجماً من غرفة خادمتي في دمشق لكن نافذتها تطل على أفق الحرية بعدها تركت التدريس للعمل في الصحافة. في البداية اعترض والدي وأصر على أن يظل ينفق علي وبوسعي (تصميد) راتبي. لكنني كنت بحاجة للاعتماد على ذاتي كأي رجل في ذلك الزمان ولو لم أفعل لدمرتني المصائب التي كانت الأيام تختزنها لي بعد ذلك وعنوانها وفاة والدي صيف 1966 وأنا ما أزال (سنة ثانية استقلال وحرية).

هان أنا الآن جالسة في باريس على شاطئ نهر السين في غرفتي الدافئة، حرة بالمعني الاقتصادي والفكري والروحي، ألقي نظرة ناضجة على متاعب صبية مشوشة حائرة في سن ابنتي هي الشابة التي كنتها ذات يوم، وبوسعي أن أتابع التهام الفستق والخيار المملح وإصدار الاحكام لها أو عليها. ما أتمنى أن أفعله حين أكتب مذكراتي هو تسطيرها بعيني تلك البنت البدوية المغرمة بالحرية وبقبيلتها المستبدة في آن، البنت الضالة، الحائرة، العنيدة، الرافضة، المكابرة الجائعة للحب والحنان، المتسولة السرية لسقف، التي كنتها ذات يوم. وأتمنى أن أحط مذكراتي بعينها لا بعيني الناضجة الحالية التي ترفل في التماسك الذاتي وقطن الحماية العائلية المعقم. أتراين أجرؤ على ذلك؟ الإجابة هي ببساطة: لا أملك إلى ذلك. فرعاياً الحرية يستسلمون لقدرهم هذا، مهما جر عليهم من متاعب وعواصف بدءاً بنشري لرسائل غسان ومروراً بكتبي كلها وانتهاء بمذكراتي. فالكتابة كالحب فعل حرية.

الآن مثلا أرى ببرود ووضح مطلق السبب البدهي لشجاري مع دمشق الغابرة وأراه بلا صخب ولا عنف، في مطلع الستينيات حين انفجرت كتابة وجدني التقليديون “ثورية” أكثر مما ينبغي وقرر البورجوازيون أنني خنت طبقتي، ووجدني “الثوريون” الذين تسلموا الحكم بعدهم “بورجوازية” أكثر مما ينبغي ولم يرض عني أحد- وتلك حالي دائما- ولقيت العداء مع الجميع لأنني أقف خارج الأطر القائمة عتيقها وجديدها ووجدتني بعد وفاة أبي الكبير وحيدة وبلا حليف وهو أمر عادي ومنطقي وواضح لكنه لم يبد لي يومئذ على هذه الدرجة منالساطة وكنت متألمة وحائرة وضالة في شبكة عنكبوتية من العلاقات ومن أخطائي أحاول عبثاً أن أفهم لم هذه النقمة كلها على بين منشور ضدي أصدرته فئة “متزمتة” وحرب مخابراتية “تقدمية” ضدي لم أكن أفهم يومها أنه ما من موهبة تمر بلا عقاب، وما من خروج على الأطر السائدة- ثورية كانت أو تقليدية- إلا وله عقاب.

وهكذا لم يبق أمامي يومها إلا الرحيل ومواجهة العالم وحيدة مزودة بخبرات زرعتها دمشق في دورتي الدموية حول مقاومة الفاتحين والاستلاب والاستمرارية، حين تكون ابناً لأقدم مدينة مسكونة في تاريخ كوكبنا ترث الكير من صمود أجدادك وهكذا واجهت العالم وحيدة كي أنجو بحروفي منذ بدايات من لعبة تانغو المساومات والمزادات العلنية للكلمة. وأعترف أن أخطائي الذاتية تحالفت يومئذ مع أعدائي وكنت صبية عديمة الخبرة في أي مجال لكنني تعلمت !!

كيف تروين تجربتك القصصية والروائية؟ منالروائيين من ينظر إلى نفسه على أنه مثل جيلاً أو مرحلة تاريخية أو اجتماعية، فهل لديك مثل هذه النظرة إلى ذاتك أو إلى أعمالك؟ كيف تنظرين مثلاً إلى من يعتبر النقاد أحياناً أنهم مثلوا جيلهم أو عصرهم، كنجيب محفوظ في مصر وتوفيق يوسف عواد في لبنان؟

لا أدري هل أمثل جيلي ومرحلتي التاريخية أم لا، إذا لدي حذر فطري من “الطاووسية الأدبية” الراضية عن ذاتها المقتنعة بأهميتها المتبخترة على رفات الحقائق، وأترك للنقاد الإجابة على أسئلة كهذه ولم أخف يوما تقرززي من “الديوك” المختالة على “مزابلها” الأدبية مباهية بفحولتها الإبداعية، ولن أنضم يوما إليها! من الداخل تبدولي العملية الإبداعية في القصة أو الرواية شبيهة بما تقوم به المحارة دفاعاً عن نفسها في بحار عدوانية، وسر الكتابةشبيه يسر الصدفة التي تحيك حاجزاً كلسياً حول حبة الرمل أو الجسم الغريب الذي يتهددها ويلقب ذلك المعطف الكلسي باللؤلؤة. فاللؤلؤة هو أسلوب المحارة في الدفاع عن نفسها والفنان حين يبدع لا يدري أنه يفعل ذلك ولا يعتمده بل يحدث له الأمر على هذا النحو، ويجهله كما تجهل المحارة أن درعها الكلسية تدعي لؤلؤة. والذي يتحدثون عادة عن إبداعاتهم وعظمتهم “التاريخية” هم غالباً من الذين لا صله لهم بذلك. ثمة هشاشة داخلية في أعماق كل مبدع، والكتابة نمط من أنماط المقاومة.

بدأت الكتابة بتسطير كوابيسي كوسلة لمقاومة ذعري منها ووحشتي الداخلية حينما كبرت وبدأت بكتابة القصة، كنت كمن يقم زاراص لطرد شياطينة الداخلية المجنونة. مع الزمن لاحظت أن كوابيسي أقل جنوباً وهولاً من الحقيق اليومية، فالتحمت سطوري بالواقع وبعذابات الآخرين المتوجسين سراً مثلي. كنت في البداية أكتب داخل رأسي أكثر مما أفعل على الورق، ثم لاحظت أن الكتابة اللامكتوبة نمط من أنماط النوايا الحسنة أما الكتابة فتورط وفعل، والتحام لهمك بهموم الآخرين.

أظن أن أصغر عمل أكبر من النوايا كلها ولذا استسلمت للكتابة كفعل. وتحولت من طاردت شياطين إلى اختصاصية في تحضير الأرواح، فكتابة الرواية استحضار لأرواح أبطالها.

قتل الناقد كان دوماً هاجسي، أعني قتل ناقدي الداخلي. فقد بدأت الكتابة والنشر في فترة دراستي الجامعية للأدب الإنجليزي والعالمي، وكان رأسي محشواً بعشرات النظريات النقدية التي تكاد تكبلني عن الكتابة وهي تتصارع على طرف قلمي وتزجرني كلما سطرت كلمة. هذه المعركة الليلية على طرف قلمي بني النقاد علمتني درسا، إذ ما يكاد أحدهم يرضى عني حتى يغضب الآخر، فقررت قتلهم جميعاً منذ البداية. وهكذا لحظة الكتابة أترك نفسي على سجيتها، أحاسب نفسي كيراً قبل الكتابة وبعدها أما خلال الكتابة فلي حرية الريح.

هذا الأسلوبت في دخولي “الغجري” إلى عالمي الروائي جعل عملي متحرراً من النقدين السلبي والإيجابي ومع الزمن اكتسبت مناعة أمام نمط من أنماط النقد التهديمي، فروايتي الأولى “بيروت 75” واجهت يوم صدروها هجوما شديدا لكنا ترجمت حتى الآن إلى ست لغاتعالمية وكذلك روايتي “كوابيس بيروت” التي صدرت أيضاً بست لغات، ومجموعتي القصصية “القمر المربع” التي صدرت عام 1994 وترجمت حتى الآن إلى الإنجليزية والإسبانية والفرنسية وحين تقارن بعض ما سطره ضدها نقاد عرب وما كتبه نقاد غربيون من حيث تبيان مواقع قوتها الفنية أو ضعفها تشر بأنك تمسك بيدك وثيقة إدانة ضد بعض المندسين في دنيا النقد العربي حيث العجالات وتانغو المصالح والأمزجة والعقد النفسية تحل أحيانًا محل القراءة المتأنية والمسئولية النقدية لدى البعض. من طرفي لا أشعر بالمرارة حين أقرأ نقداً من هذا النمط ضدي بل أجده جزءا من الحقيقة البشرية الأدبية المرة كبقية حقائق حيانا حيث يمزج النور بالظلمة. وأذكر نفسي دائما بحظي الاستثنائي لأني وجدت قلة تحتضن حرفي وأنا ما أزال حية، وما أكثر الذين يفوقونني عطاء ولم يجدوا في زمانهم من يلتفت إلى عطائهم كما أذكر نفسي بأن المبدعين الانطباعيين مثلاً واجهوا العداء العنيف والسخرية من معظم نقاد زمانهم ومن الناس، وعاشوا مع الفقر والبؤس كفان جوخ الذي قايض إحدى لوحاته بصحن حساء، وهي لوحة بيعت في زماننا بالملايين. ثم إن النقاد الغربي الذي ينصفني هو نفسه غير عادل أحياناً مع سواي. وليس ثمة أبيض أو أسود في شيء بل تدرجات اللون والظلمة بما في ذلك في دنيا الكتابة.

الرواية والخيانة الزوجية
أنتمي في الرواية العربية إلى الأسرة الليبرالية الراغبة في التحرر حتى من الأسرة الأدبية، اعتقد أن كتابة الرواية تشبه الخيانة الزوجية، إذ يستحسن التكتم عليها خلال مرحلة التخطيط لها والكتابة ريثما تكتمل ويصير المرء قادراً على الخروج بها إلى العالم الخارجي مرة واحدة. الذي ينتمون مثلي إلى الأسرة التجريبية والحرة، الأسرة المكونة من هواة الكتابة لا (محترفيها) يشعرون باستمرار بأن كل عمل لهم بداية ما ولا ينعمون يوماً براحة البال لأنهم لا يقيسون انفسهم باسرتهم الأدبية بل بأحلامهم المستحيلة.

أنظر إلى نجيب محفوظ باحترام وحب، فقد علمني درساً نقدياً كنت بحاجة إليه. أيام المراهقة، كنت اضع بيني وبين نفسي شروطا للعمل الأدبي وعلى رأسها اللغة العربية الجميلة والشعرية. وهكذا ما أكاد أبدأ بقراءة كتاب لمحفوظ حتى أتركهه من الصفحات الأولى وأعلن دونما وجل: لا أحبه لغته غير جميلة ثم قررت أن موقفي هذا يشبه موقف بعض الذي الومهم. فقررت قراءة عمل لنجيب محفوظ وإرغام نفسي على ذلك ليكون لي حق انتقاده. وبعد قراءتي للفصول الأولى بدأ الإبداع القصصي لديه ينسيني تماما لغته، وصار الشعر يتدفق من المواقف والرؤيا. نجيب محفوظ رائي حقيقي له موهبة قص استثنائية، علمني منذ مراهقتي أن أنصت للآخر وأحاول معرفته قبل أن أطلق أحكامي. أحياناً أقول لنفسي: لو قيض الله لإبداع محفوظ القصصي لغة كلغة يوسف إدريس المائية النارية أي عبقري نادر كنا سنربح؟ ثم أذكر نفسي بأن المبدع كبير بنقاط ضعفه كما أن الماسة جميلة بشرخ صغير فيها أو ضمرة في ضوئها وفي ذلك ما يميزها عن الماس الاصطناعي.

توفيق يوسف عواد صديق حميم وفنان كبير ولكن موهبته أكبر من عطائه الإبداعي على ضخامته. لعله تشتت بين الشعر الذي كان يتقنه والرواية وعمله الدبلوماسي كسفير، ولعله مثل الكثيرين كان يقول غداً أكتب كذا وكذا، ويهرب رمل الرزمن من بين الأصابع باسرع من ركض الحبر على سطورنا ونحن لا نلحظ ذلك وأهمين أن غداً آخر بانتظارنا، الفنان كالطفل لا يريد أن يصدق أنه هو أيضاً سيموت، فالموت يحدث للآخرين فقط، ويؤجل مشاريعه لوقت آخر ولا يلحظ أنه ليس ثمة وقت، وأننا في اللحظة التي نولد فهيا نبدأ موتا التدريجي، كأننا “نولد موتنا” لحظة ولادتنا.

الكاتبة والالتزام
هل أنت كاتبة ملتزمة أم غير ملتزمة؟ وكيف تتعاملين مع نظريات تبدو مهجورة اليوم كنظرية الفن أو الأدب للأدب؟

لم أنتم يوماً لأي حزب، وبالتالي لم أذعن يوماً لأي إلزام خارجي. ولم أتوهم يوما كما يتوهم بعض الحزبيين أن بوسعهم (أو بوسع زعيمهم) تبديل الدنيا كما يفعل سيلفستر ستالوني وهاريسون فورد وبروس ويليس وغيرهم من نجوم السينما الأمريكية حيث البطل يبدل العالم بمعركة. الكاتب ليس “رامو” ولا “انديان جونز” ولا “السوبر مان” ولو كان وراء حزب أو موهبة كبيرة.

أنظر إلى الالتزام كما نظرت إليه دائماً: إنه التزامي بحرية الخيار. الالتزام نقيض الالزام، وعليه أن ينبع من أعماق الكاتب ليكون جزءاً من النسيج الإبداعي للكاتب لا رقعة شوهاء.

ليس ثمة إبداعات جيدة تدعي “الفن للفن” لأن الفن المبدع لا يقع خارج قضاياً الإنسان والحياة والأرض المرقطة بالظلال المعتمة مخاتلة الأسرار لحياتنا البشرية وأعماقنا الغامضة بالمقابل، أكره أن نسوق الأدب مرغما إلى الجندية الإجبارية بحجة حمايته من “البرجعاجية”.

الأدب ليس منشوراً حزبياً ولا سياسيا ولا دينيا ولا اقتصاديا. الأدب فن أولاً وقد يتضمن كل سبق ذاكرة أولا يتضمنه، والأمر مترو لحرية الفنان. الالتزام الوحيد الإرغامي الذي يجب على كل أديب الإذعان له هو الالتزام الفني، أي الخروج بما يكتبه من مرحلة الفحم إلى مرحلة الماس.

إن أي عمل أدبي مهما كان جيد التوجه ووطنياً يظل بلا قيمة حقيقية إذا لم يكن مبدعاً لقد انتشر في بلادنا ذات فترة وباء التوهم بأن كل وطني شاعر، وكل نص يتحدث عن المقاومة وتحرير فلسطين بحماس هو “إبداع” والغريب أن عمي الألوان النقدي هذا مازال ميكروبه يصحو وينتشر بين وقت وآخر.

الأدب النسائي
تبدو عبارة الأدب النسائي مكروهة عند الأديبات عادة. فهل هي مكروهة أيضاً عندك؟ وها تكتبين لعموم النساء والرجال أيضاً؟

ما الذي يحدث لو طرحت سؤالاً كهذا على أديب ما، كان أسأل نجيب محفوظ مثلاً: هل أنت كاتب رجالي أم كاتب للرجال وللنساء أيضاً؟ وماذا لو طرحنا على مدام كوري السؤال: هل أنت عالمة نسائية أم عالمة للنساء والرجال معاً؟

المبدع في نظري أيا كانحقلة يستعصى على التصنيف انطلاقا من جنسه البيولوجي، جنس المبدع في نظري لا يحدد جنساً لعطائه أيا كان حقله بما في ذلك حقل الأدب. ستقول لي إن المرأة الأديبة تكتب غالبا عن المرأة. وماذا في ذلك؟ الفلسطيني أيضاً يكتب غالبا عن فلسطين، والبحار السابق يكتب عن الكادحين البحارة وللفنان (رجلاً كان أم امرأة) حق اختيار مادته الكتابية وموضوعة سواء كان ذلك تحرير العبيد أو الفلاحين أو العمال أو النساء أو الحيوانات ذات الفراء. المهم أن يحلق موضوعه إلى قمة إبداعية. وحين يفعل، نجد أنفسنا أمام عمل أدبي إنساني، ولا نطرح أسئلة من نمط: هذا العمل بنت أم صبي؟ أدب عمالي أم أدب مقاومة أم أدب برجعاجي؟ فكل أدب كبر هو في النهاية إبداع يعتق الأرواح كلها. أعرف أن عبارة “الأدب النسائي” يطلقها البعض على الأدب المتخصص في الدفاع عن المرأة. فهل يعني ذلك أن الأديب الذكر الذي يدافع عن المرأة يكتب أدباً نسائياً؟

وأعرف أيضاً أن عبارة “الأدب النسائي” يطلقها البعض الآخر على الأدب “الأدني منزلة” والذي لابد وأن تكتبه المرأة لنقص معين لديها أو في ظروفها. ولكن نظرة موضوعية إلى المزاد العلني الأدبي تكشف لنا أن الأدب الرديء لا تكتبه المرأة وحدها بل الرجل أيضاً، وثمة كاتبات أفضل بكثير من كتاب ذكور، فهل الذكور الذين يسطرون أدباً رديئاً يكتبون أدباً نسائياً؟

عبارة “الأدب النسائي” يطلقها البعض أيضاً على الانشغال الأدبي بعالم امرأة أو أكثر فهل يعني ذلك أن فلوبير أديب نسائي لأنه كتب “مدام بوفاري” وتولستوي كتب أدباً نسائياً لأنه سطر “آنا كارنينا”. وهل يعني ذلك أن الفائزة بجائة نوبل توفي موريسون هي أدبية “نسائية” زنجية لأن معظم أبطالها كذلك؟ وهل “عبقور أفندي” أديب إنساني لمجرد أنه ذكر “حمش” على تواضع عطائه؟

ولماذا يحق للأديب الذكر ما لا يحق للأديبة؟ لماذا يستطيع أن يكتب عن المرأة دون أن يتهم بكتابة أدب نسائي؟ ولماذا له حق الرداءة دون أن يوصف بأنه يكتب أدباً نسائياً؟

ألم يحن الوقت للخلاص من التمييز الطائفي النقدي ليصير المقياس الأوحد هو الإبداع، أي ثمة أدب أو لا أدب وهذا كل شيء. وكون الكاتبة أنثى لا يشفع لرداءة عملها ولا يبيح لنا اختراع “حرملك” أدبي نقدي، أو منزلة بين المنزلتين للأدب أسمها نسائي. ثمة إبداع أو فشل للطرفين الكاتبة المرأة والذكر مناضلاً كان أو فلاحاً أو عالماً أو نجماً اجتماعياً ومع الجرائم الأدبية وحدها لا توجد “ظروف تخفيفيه” كما مع جرائم الشرف، ومع الحرف الحكم هو دائماً بالإعدام أو المجد دونما مطهر لطيف أو “منطقة وسطى” أسمها “الأدب النسائي”